في صراع الحضارات
2004-03-21
عبد السلام بنعبد العالي
ليس في نيتنا أن نعود بدورنا إلى ذلك الجدال الطويل الذي خلفه ظهور مؤلَّف صموئيل هانتينغتون, لا لكون المقام لا يسمح بذلك, وإنما اعتقاداً منا أن قيمة "نظرية" صراع الحضارات لا تكمن في مضمونها أو في المفاهيم التي تقوم عليها, وليس أيضاً في شكلها ودعامتها المنطقية, وإنما أساساً في كونها جاءت في وقت كان العالم في أمسّ الحاجة إلى أوهام جديدة. لذا سرعان ما تلقفتها الأفواه والأقلام وأنهكتها الندوات والجدالات فغدت "مفتاحاً" لفهم العصر, بل "تفسيراً" لكل الأحداث المتأخرة.
من أجل ذلك ربما ليس هناك من مبرر الخوض نقاش فلسفي حول هذه "النظرية". وربما كانت أحسن وسيلة لنقدها في نظرنا لا الخوض في جدالات عقيمة حول تحديد المفاهيم التي ارتكزت عليها, ولا محاولة اثبات فسادها المنطقي, أو تهافتها الفلسفي, وإنما فضح آليات عملها. ولا يعني هذا مطلقاً نفي مفعول هذه "النظرية", وإنما التأكيد على أن قيمتها تكمن أساساً في كونها وفّرت دعامة نظرية, وأمدت من كانوا بحاجة إلى نظرية لتبرير أفعالهم. ذلك أن هذه النظرية لم تكن تستهدف الوقوف عند حركة التاريخ وإنما رصد آفاقه والمساهمة في خلق ممكناته. فهي تدخل ضمن آليات جديدة أخذت تطبيع عالمنا المعاصر, لا هي بالآليات المنطقية ولا بالآليات الايديولوجية, مع ما يفترض فيها من تشويه وقلب, وإنما آليات تجعل الأشياء حقيقة بمجرد التأكيد على أنها كذلك. إنها آليات تجعل "الواقع" مفعولاً لما يقال عنه, وهي الآليات نفسها التي تتحكم اليوم في الإشهار والإعلام واستطلاع الرأي.
وعلى رغم ذلك, لا يعفينا عدم التوقف عند فحوى "نظرية" صراع الحضارات من الوقوف عند النتائج التي تمخضت عنها والجدال حولها. وما يستوقفنا في هذا الصدد نتيجتان تبلورتا عن هذا المخاض: أولاهما أن الجدال حول هذه المسألة طرح أمامنا خيارين منفصلين لا ثالث بينهما: إما التسليم بصراع الثقافات, أو القول بالحوار بينهما. وهكذا طُرح الحوار مقابلاً للصراع وبديلاً عنه.
النتيجة الثانية ان الصراع, أو الحوار, طرح بين معسكرين ثقافيين مهما اختلفت أسماؤهما, سواء كان التقابل بين الإسلام والغرب, أو معسكر الشر مقابل معسكر الخير.
لنحاول مساءلة هاتين النتيجتين, ولنبدأ بالثنائي صراع/ حوار كي نتساءل: ألا يلتبس دوماً أحدهما بالآخر؟ هل الحوار هو المقابل الممكن للصراع؟ لقد تعودنا القول إن الحوار طريق سلمي يبدأ بعد أن تهدأ الحروب وتسكت المدافع, وانه لا ينطوي على علائق قوة, وإنما يخفي سوء تفاهم من شأن تبادل الحجج أن يرفعه. فمقابل اللامعقول الذي يطبع الحروب, فإن الحوار يحكمه منطق العقل, ويكفي ابداء حسن النية اللازم والتحلي بخصال الصدق واحترام الرأي الآخر كي يُرفع سوء التفاهم ويتوصل الطرفان المتكافآن إلى الاتفاق والوفاق.
ما يتناساه هذا الموقف هو أن أداة الحوار التي هي اللغة, هي مرتع تناحر القوى وميدان مفعولات السلطات. اللغة عش الاختلاف ومجال علائق القوة. فإن تطلق الأسماء, كما كان يقول نيتشه, فـ "هو أن تكون سيداً". استراتيجية التسمية هي استراتيجية هيمنة وتسلط, وتاريخ الأشياء هو تاريخ مسميات, وهو بالتالي تاريخ أسماء. وتاريخ الأسماء هو تتابع القوى المستحوذة التي تعطي المعاني وتحدد القيم. ذلك ان اسم الشيء ومعناه هو القوة التي تستحوذ عليه وتتملكه. فالكلمات إذاً "كميات من القوة في علاقة توتر". ولا يمكن للحوار الذي يوظفها وسيستثمرها, إلا أن يجسد علائق القوة ومرامي الهيمنة.
لا يتحدد الحوار إذاً بآليات منطقية ودوافع أخلاقية تتوقف على نزاهة المحاور وصدقه ووفائه لما تعهّده. إنه صراع مقنّع لتعيين من يحدد المعاني ويطرح الاشكالات ويعرّف المفاهيم. إنه حرب على مستوى الكلمة, ولا داعي هنا للإكثار من الأمثلة: يكفي ان نتذكر سوء التفاهم العميق الذي طبع, وما زال يطبع, مختلف اللقاءات التي تمت على مختلف المستويات لتحديد مفهوم الإرهاب.
هذا المثال يسمح لنا بالانتقال إلى النقطة الثانية التي أشرنا إليها, والتي تتعلق بأطراف الحوار أو طرفي الصراع. فلقد حدد البعض أطراف الصراع وفق تقسيمات حضارية, أو تحديدات جيوسياسية اتخذت اسماء ذات حمولة أسطورية أحياناً. والغريب أن هذه التقسيمات المانوية تأتينا ممن يضعون أنفسهم في جهة ثقافة الحداثة والعقلنة والتنوير, إلا اننا سرعان ما نتبين أنهم يصدرون في تحليلاتهم عن أوليات لا تقل أصولية عما ينعتونه هم بالأصوليات. هذا, فضلاً عن استخدامهم آليات ايديولوجية لاذكاء مشاعر التفوق وممارسة أدوار الهداية وتغويل الآخر باعتباره حاملاً للعنف مسكوناً بالإرهاب, في إطار نظرية استعلائية تعتبر الثقافات الأخرى ثقافات تهدد القيم الكونية التي تحملها الثقافة الغربية.
إلا أن ما ينبغي التأكيد عليه أن هذا النوع من الفصل الحضاري والجغرافي والثقافي أصبح اليوم من قبيل المتعذرات. فنحن أصبحنا اليوم عاجزين عن رسم الحدود في عالم بلا حدود, والبحث عن مرجعية في فضاء بلا مرجعيات, وعن ألوان خاصة في عالم بلا ألوان جغرافية وتجارية وسياسية, ولكن أيضاً بلا ألوان ثقافية.
إن ما يميز عالم اليوم, أي العالم وقد اكتسحته التقنية, هو غياب الاختلاف, أي سيادة التنميط والأحادية. لقد أصبحنا نتغذى الغذاء ذاته, ونرى الصورة عينها, وننفعل الانفعال نفسه. أصبحنا موحدي المظاهر والأذواق والاحساسات والانفعالات. ولا يمكن أن نستثني ههنا جهة أو بلداً يكون موجهاً للعبة متحكماً فيها, واعياً بخفاياها, حائكاً لخيوطها. فكلنا في النمطية الثقافية سواء.
ليس الصراع اليوم إذاً بين معسكرات السياسة, ولا بين مناطق جغرافية, وبالأولى ليس بين آلهة الخير وشياطين الشر. انه ليس حتى صراعاً بين داخل وخارج, وإنما بين ثقافتين تتجسدان في الموطن الواحد, بل عند الفرد الواحد, هما ثقافة الحداثة وثقافة التقليد. فمواجهة الآخـر غدت اليوم أيضاً مواجهة للذات, لأن مظاهر الحداثة تتخذ طابعاً عضوياً وتهاجم التقليد في عقر داره.
إضافة إلى ذلك, فإن طرفي الصراع - الحوار لا يشكلان اليوم طرفين قارين جاهزين يدخلان في ما بعد في مواجهة بينهما. ذلك أن ثقافة الحداثة انسلاخ عن ثقافة التقليد. إنها حركة انفصال دائبة نحو خلق شبكات مقاومة تحاول الانفلات من التنميط وتسعى نحو خلق الفروض وإحداث الاختلافات. ولا يمكن لهذه الشبكات أن تُنصّب من نفسها قوة "تقف" إلى جانب الخير, فتعلنها حرباً على قوى الشر, وإنما تتشابك في علاقة مع ذاتها. لذا فإن نقاط ارتكازها تغدو "باطنية" افتراضاً بأن كل ثقافة هي وعي ولاوعي, حداثة وتقليد, نمطية وانفلات عنها.
تتشابك في الحوار - الصراع إذاً عوامل متداخلة, ويمتزج فيه اللاعقلاني بالعقلاني والماضي بالحاضر والوعي باللاوعي والذاتي بالموضوعي والباطني بالبراني, وكل ذلك من أجل نسج خارجٍ جديد وابداع ثقافة ما تفتأ تتجدد.