توتاليتارية الإعلام
2004-10-10
عبد السلام بنعبد العالي
كتبت هنه أرنت: "إن الفاعل الذي كان وراء التوتاليتارية ليس النازي المتشنج, ولا الشيوعي المتعصب, وإنما الفرد الذي لم يعد يفرق بين الواقع والوهم, ولا بين الصواب والخطأ". انه الفرد الذي فقد القدرة على إدراك حقيقة التجربة الواقعية, الفرد الذي لم يعد في امكانه أن يستشعر حقيقة العالم الواقعي, ولا معنى ما يتم فيه, وارتباطا بذلك, الفرد الذي أصبح عاجزا عن تحديد صحة الخطابات حول العالم ومعناها. انه إذاً الفرد الذي غدا مستعدا لأن يتقبل أي خطاب حول العالم, الفرد الذي فقد القدرة على التفرقة والتمييز, الفرد الذي فقد حس الاختلاف, أي الذي أصبح يضع الأمور في سلة واحدة, أصبح يسوي بين كل الأمور, يسوي بين الكل, الفرد الكلياني. ليست الكليانية إذاً إيديولوجية بعينها, ليست منظومة من الأفكار, ليست "رؤية للعالم" هي النازية أو الشيوعية, وإنما هي موقف للفرد, موقف للفكر.إنها وضعية للفكر وليست مجموعة من الأفكار, الوضعية التي يفقد فيها الفكر القدرة على تمييز الواقع عما عداه, الوضعية التي يفقد فيها الواقع واقعيته.
كتبت أرنت هذا الكلام لتبين أن أصول الكليانية تتجاوز ظهور تيارات بعينها مثل النازية أو الشيوعية, وأنها تمتد إلى ما قبل ذلك بكثير. ومع ذلك فربما كان هذا التحديد يصدق بالأولى على وضعنا المعاصر, مع فارق أساس, وهو أن الفاعل الذي يكمن وراء التوتاليتارية هنا, أي وراء فقدان الواقع لواقعيته, هو الإعلام.
الإعلام هو الأداة الأساسية التي تجعل الواقع اليوم يفقد واقعيته, انه هو الذي يكمن وراء الوضعية التي تجعل الواقع اليوم يتلبس الوهم, يتحول إلى سينما, بحيث تغدو الشاشة صورة عن الواقع, تغدو الواقع ذاته في مباشرته وحيويته وحياته. وتصبح الأحداث الجسام وقائع متنوعة Faits divers تتكرر وتجتر, مع ما يتولد عن ذلك من تهوين للأهوال Banalisation بحيث يغدو ارتكاب الفظا عات, وقتل المئات, وانتهاك الحقوق, واقتراف الجرائم من الأمور المعتادة المألوفة, وتصبح صور الجثث المكدسة, والأشلاء المتناثرة, والبيوت المهدمة, والحرائق المهولة وكل ما تخلفه الحروب والكوارث الكبرى مشاهد معتادة, وأمورا مقبولة بل واقعا يوميا.
هذا الواقع الجديد يفتقد شيئا من الواقعية, انه واقع سريالي.فهو غير قادر أن يبعث فينا الاحساسات التي كان ينبغي أن يبعثها فينا, ولا أن يوقظ فينا المشاعر التي كان يلزم أن يوقظها فينا, ولا أن يثير فينا ردود الأفعال التي كان يتوقع أن يثيرها فينا. كيف نميز, والحالة هذه, بين ما يقال عنه من خطابات صادقة عن غيرها من الخطابات؟