تحيّة طيبة
أكتب إليك بعد أن قرأت في إحدى الصحف السيارة حديثا نسب إليك ونسبك لكلّيّة الآداب بمنوبة.و من المرجّح أنّني لم أدرّسك ولكن اسمحي لي أن أعتبرك من طالباتي مادمت مسؤولا عنك جامعيّا ولو من الناحية الإداريّة والأكاديميّة على الأقلّ.
لا أدري إن كان عليّ أن أهنئك بزواجك عرفيّا من زميل لك بقسم الفرنسيّة وإن لم أكن راضيا عن هذه الصيغة من صيغ الارتباط بيد أنّك تعلّمت ولا شكّ في دروس الفلسفة بالمعهد معنى الحرّيّة في الاختيار وتحمّل المسؤوليّة في ما تقدمين عليه بخيره وشرّه.وفي الحالات جميعا لم أكتب إليك لألومك أو لأدينك أو لأتهمك أو لأنتصب واعظا بليدا بل لأفضي إليك ببعض ما عنّ لي من خواطر وأنا أقرأ تبريرك لما أقدمت عليه داعيا لك بالسعادة والهناء والتوازن النفسيّ والتمتع بمباهج الحياة فعلى الأرض حقّا ما يستحقّ الحياة كما قال الشاعر.فلا تبتئسي لما تسمعين من الناس متديّنين وغير متديّنين من نقد وانتقاد وقلّة تفهّم لدوافعك وإن كان منهم مخاطبك في هذه الرسالة.لقد اخترت سبيلا أخرى غير السبيل المسطورة فلا تضيعي على الأقلّ القصد الذي قصدت والهدف الذي رسمت.
ابنتي العزيزة،
قرأت عنك أنّك أقدمت على الزواج عرفيّا لتلبية حاجتك الجنسيّة وما تشعرين به نحو صديقك ابتعادا منك عن المعاصي والمحظورات والمحرّمات والعلاقات غير المشروعة دينيّا.وفسّرت اختيارك لهذه الصيغة في الارتباط تفسيرا اقتصاديّا على اعتباره أنّه زواج لا يتطلّب إنفاقا ولا ولائم ولا غيرها من المصاريف التي أصبحت ثقيلة عليك وعلى أبناء جيلك كما كانت،والحقّ يقال، ثقيلة على الأجيال التي سبقتكم.
أودّ بدءا أن أعبّر لك عن تفهّمي لك عميق التفهّم وربّما فهمت منك شيئا غير الذي قصدت.فقد صدمت بموقفك هذا مجتمعا ونخبا توهّمت أنّها مطمئنّة بفضل منظومة حقوقيّة متطوّرة على حقوق المرأة والأسرة لذلك اندهش أهل الحداثة والفكر اليساري وأحفاد الزعيم الخالد الحبيب بورقيبة من هذه الحلول كما انزعج الذين يتبعون السراط السنيّ المالكيّ القويم ممّا أقدمت عليه فهم لا يذهبون إلى ما يذهب إليه أهل الملل والنحل والمذاهب الأخرى من شيعة وسلفيّة طلعت لهم من الفضائيّات كالعفاريت ولا رادّ لها عندهم.
لذلك وجّهت إليك سهام النقد باسم القانون.فقد خالفت ما تنصّ عليه مجلّة الأحوال الشخصيّة من منع للزواج بغير الصيغة الرسميّة.ووجّهت إليك سهام النقد باسم المدافعين عن حقوق المرأة لأنّ ما أقدمت عليه يسقط عمليّا حقوقا لك، قد لا تعرفينها أو لا تتصوّرين أهميّتها عندك في قادم الأيام، كالنفقة والاعتراف بالأبناء وحقّك في الإرث ولو لم يكن تناصفا وغير ذلك من الحقوق التي كفلها لك القانون التونسيّ. ووجّهت إليك أيضا من جهة ثالثة ضروب من النقد باسم الإسلام الذي يوجب عند من نقدك إشهار الزواج وإلا اعتبر دعارة مقنّعة.
أعرف أنّ الأمر ثقيل عليك لكثرة السهام من كلّ صوب ولكنني متأكّد من أنّك ستواصلين مغامرتك عنادا نفهمه ممّن هم في سنّك من جهة وتعبيرا ، من جهة أخرى، عن طاقة فيك كامنة على الاحتجاج والإصرار على الدفاع عن النفس رأينا صورة منها يوم تمسكّت بالدراسة وإجراء الامتحانات دون التخلّي على النقاب.
ولا أخفي عليك أنّك في وضعيّة صعبة أرجو لك أن تجدي لها بذكائك مخرجا.فللصدام مع المجتمع والدولة ثمن باهظ لا أتمنّاه لك.فاحذري مثل هذا الصدام ولا تعوّلي كثيرا على نقابك الذي تخفين به وجهك عن المجتمع.فالدولة تزيل الحجب والأنقبة جميعا متى شاءت ومتى لزم الأمر. ولا يغرّنّك ما يدور في الوسط الضيّق الذي وجدت نفسك فيه لأنّه وسط مقطوع عن الواقع يعيش ما عاشته عبر التاريخ المجموعات المغلقة التي لا تزيدها قلّة مريديها إلاّ توهما للقوّة والحقّ وهي أوهى من بيوت العنكبوت.ولا يذهبنّ في وهمك أنني أخيفك أو أهدّدك بالدولة وقوّتها فأنا معك يهمني أمرك لأسباب سأفصلها في ما سيأتي ولست ممن يدعوك إلى ما لا ترغبين فيه.
ابنتي العزيزة،
أصدقك القول أنّك ، بقطع النظر عن النقد الذي وجه إليك ولأمثالك، قد طرحت عليّ شخصيّا وعلى النخب التونسيّة وعلى المجتمع سؤالا خطيرا مهمّا لم يجد له من نقدك إلاّ ردودا جاهزة أعترف لك أنّها تعبّر عن خوف منك أكثر ممّا تعبّر عن تفهّم وسعي إلى إيجاد الجواب الذي يريحك ويريح من يفكّر بأسلوبك.
لقد قلت لنا بلغة متلعثمة وإن بدت واضحة وبخطاب مأزوم وإن بدا واثقا من نفسه: "كيف تريدونني أن أوفّق بين شهوة الجسد والغريزة التي ركّبها اللّه فيّ وحقّي في المتعة الجنسيّة وبين أحكامكم عن الزنا وتجريمه وركام المحرّمات الدنيّة والقانونيّة ونفاق المجتمع المهووس بالجنس ، المتسربل بالتقوى الكاذبة ؟".
وأصدقك القول مرّة أخرى أنّك على حقّ.وأحب أن أصارحك بأنّك بسؤالك هذا قد أدخلت عليّ بعض السرور ومزيد الشعور بالفخر ببنات تونس الرائعات وأنت منهنّ.
فربّما فاتك أنّ مثل هذه الجرأة في طرح مسألة متعة المرأة الجنسيّة، وهي مما أقرّه الإسلام للمرأة على ما أعلم دون غيره من الأديان،لا يمكنها أن تصدر إلاّ من بنت من بنات المدرسة التونسيّة التي علّمت المرأة التونسيّة ففاقت نسبة الطالبات في التعليم العالي نسبة زملائها الذكور وتجاوزتهم في النتائج الممتازة ونسب النجاح الدراسيّ.فصوتك الذي اعتبره بعض المبكوتين المهووسين برائحة الأنثى عورة صوت قويّ حديث رغم الإهاب الدينيّ الذي يغلّفه.
وهو صوت نشاز في العالم الإسلاميّ الذي يقمع المرأة ويسكتها خوفا من جرأتها ومن فتنة قولها لا من جسدها وأنوثتها فحسب.إنّه جبن الرجل الضعيف المتحكّم بالترهيب والتخويف في رقاب النساء وليس حرصه على الدين وتعاليمه.فأنت يا بنيّتي وإن كنت منتقبة أو متحجّبة ممّن وضعت فيه مدرسو تونس الحديثة من الجرأة والعقل النقديّ ما لا يستطيع إنس أو جنّي أن يخرجه من قلبك.فعظّي على دينك بالنواجذ كما تعظّين ، من حيث تشعرين أو لا تشعرين، على حداثتك الأصيلة بالنواجذ أيضا وإن كره الكارهون.
وربّما فاتك أيضا ، وهو أمر أجد لك فيه الأعذار كلّها لعيب فينا نحن أساتذتك لا فيك، أنّك ابنة كلّيّة الآداب بمنّوبة.وهي كلّيّة من مفاخر منظومة التعليم العالي ببلادنا رغم كلّ ما يكال لها من اتهامات بعضها صحيح و كثيرها كاذب. وهذه الكليّة كما تعرفين يتوسّطها نصب سمّاه مجلسها العلميّ منذ سنوات " مشكاة الأنوار" فجمعوا بذلك بين عنوان كتاب للعقل الجبّار الذي مثّله حجّة الإسلام أبو حامد الغزالي وبين الإيحاء المقصود إلى العقل النقديّ الحديث الذي أنتجه عصر الأنوار الغربيّ.فكنت ، وأنت ابنة قسم الفرنسيّة بكلّيّة الآداب ، جامعة بين النورين:نور الدين الموافق للفطرة ونور العقل في أقوى تجلّياته رغم السواد الذي تلتحفين.ولكن لا يعرف المرء بلباسه ولا يدلّ اللباس على حقيقة المرء على ما هو شائع قولا وعيانا.
لقد فاتك الأمران معا ولكن لم يفتك أن تعبّري بلغة تبدو للغافل المتسرّع لغة الظلام عن سؤال من أسئلة الأنوار التي تخرج من مشكاة النفس اّلإنسانيّة المتشوّقة للحياة والمتعة وطيّبات ما رزقنا الخالق المبدع.لذلك أنا فخور بك، يا بنيّتي، وإن خالفتُ ما اخترت لك من سبل في اللباس والزواج وما استقرّ عندك من فهم للدين والشريعة.
والحقّ أنّ من ينقدك اليوم لم يقدّم لك إجابات شافية عن سؤالك.فما فعلت لا يرقى إلى الأخطار التي يمثّلها الاغتصاب والتحرّش الجنسيّ والمتاجرة بأجساد النساء واستغلالهنّ جنسيّا بل لا يبلغ صورا من العلاقات الجنسيّة المريعة كزواج المحارم و ما ينتج عنه من أبناء والاعتداء الشنيع على الأطفال والقاصرين والقاصرات بل الاتصال الجنسيّ، نساء ورجالا، بالحيوانات الأليفة في بعض أريافنا التونسيّة بالخصوص.واسألوا القضاة ومراكز الشرطة والحرس والأطباء إن كنتم لا تصدّقون.
وهي ظواهر لا تعود كما يريد الأتقياء، من السلفيّين وغير السلفيّين، إيهامنا بذلك إلى خروج المرأة إلى الحياة الاجتماعيّة ولا إلى تدهور الأخلاق. ففي كتب الفقه، يوم كان الفقهاء يعرفون مجتمعاتهم ويعملون على حلّ مشاكلها، وفي كتب الأدب شعرا ونثرا أدلّة وشواهد أخبار ونوادر تبرز أنّ الأمر لا يتّصل بحجب المرأة في البيت.
ولا تنزعجي يا بنيّتي فأنا ، وإن اختلفت معك في ما ذكرته لك ، أشهد أن ما فعلته شبيه ، بما يسمّيه بعض من نقدك بما نعرفه في بلادنا أمس واليوم من علاقات تسمّى حرّة ومعاشرة زوجيّة دون عقد وخيانات زوجيّة أساسها تعدّد العلاقات الجنسيّة وغير هذا من الظواهر.وهو شائع منتشر عندنا وعند غيرنا من المجتمعات الإسلاميّة التي لا تجرأ على أن تنظر إلى واقعها مدّعية التديّن وتحكيم الشريعة.وهو شائع أيضا لدى الجميع بقطع النظر عن انتماءاتهم الإيديولوجيّة والفكريّة دينيّها ولائكيّها ولا فرق إلاّ في التبرير الذي يستند أحيانا إلى آيات غير بيّنات من ماركس وفرويد وإيريك فروم وغيرهم أو إلى فتاوى بائسة يطلقها من نصبوا أنفسهم علماء بالدين يبحثون عن ختان البنات و الزواج بالرضيع و إرضاع الكبير وغيرها من المسائل التافهة الخطيرة ليكشفوا عن أمراضهم الجنسيّة وهوسهم بالجسد الذي يدعون إلى قمعه وحجبه.
طالبتي العزيزة،
ما يخفيه كلامك وما لا نريد أن نعترف به هو أنّنا مجتمعات مكبوتة مهووسة بالجنس ولكن ثقافة التحريم والخوف والتستّر على المعاصي تمنعها من أن ترى نفسها في المرآة.إنّها مجتمعات تعيش بؤسا جنسيّا معمّما وتدّعي في الآن نفسه طهرانيّة كاذبة باسم الدين فلا تجد لها من مخرج إلا مخالفة تعاليم الدين في السرّ لقوّة الغريزة التي لا تعرف لها تصريفا وفق المجاري السائدة أو استمرار الكبت وما يحمله معه من عذاب صامت وألم عميق ووجع ممضّ.
لهذا يا بنيّتي لا أدينك ولا أقسو عليك بقدر قسوتي على من يزعمون أنهم رعاة القيم والدين وحماة القانون ومصالح المجتمع.فقد كفّوا منذ أمد بعيد عن الإصغاء إليكم وإلى الناس وأصبحوا يدعونكم إلى ما استنبطته عقول الأسلاف وأودعوه كتبهم ناسين أنّهم كانوا رجالا وهم اليوم ينبغي أن يكونوا رجالا يجدّدون القول الدينيّ على ما تقتضيه أسئلتكم.بل لعلّهم يحتاجون إلى أن يفكّروا بما تشعر به المرأة التي تطالب باسم الإسلام نفسه بحقوقها التي منحها لها الخالق بما في ذلك الحقّ في الجسد والتصرّف فيه والحقّ في المتعة شأنها شأن الرجل لتخرج من منزلة الوعاء الذي يفرغ فيه فقهاء الكبت سموم هلوساتهم.فلئن لم تبرز عندنا فقيهات فإنّ قراءة الدين من وجهة نظر المرأة المقموعة أمر ممكن ولا جدال.
و الواقع يا بنيّتي أنّ الإجابات الموجودة عن سؤالك هي بضاعة قديمة تكتفي بتذكيرك وأخواتك بالتعفّف والإكثار من الصلاة وغضّ البصر والتحذير من الزنا والمعاصي والتهديد بالنار وبئس المصير.
ولا يذهبنّ في وهمك أنّ الزواج العرفيّ حلّ كما قد توهمت.نعم قد يحلّ جانبا من مشكلتك الجنسيّة ولو ظرفيّا ولكنه يا بنيّتي صيغة في الارتباط تدلّ على أنانيّة الرجل وانتهازيّته وجبنه.فهو لا يرتضي هذه الصيغة لأخته أو ابنته ولا يريد أن يتحمّل مسؤوليّته والإيفاء بالتزاماته الأخلاقيّة بإزائك ( أن يسكن إليك دون نيّة الانفصال مسبقا احتراما لذاتك وكرامتك الإنسانيّة لا استجابة لشهواته الجنسيّة) والاجتماعيّة ( أن يحمي حقوقك عند الإنجاب والميراث وحقوق طفلك ومكانتك الاجتماعيّة باعتبارك امرأة قد تشتهي الأمومة يوما من الأيام) والاقتصاديّة ( أن يكون قادرا على التعاون معك في التغلّب على مصاعب الحياة وما تتطلّبه ماديّا إن لم نتحدّث عن القوامة التي يعرفها في الكتب ويباهي بها ولكنه لا يتحمّل تبعاتها).
لقد بذلت يا بنيّتي من حيث لا تشعرين جسدك لمن لا يحترم ذاتك وكرامتك ولا يراك إلاّ جسدا يفرغ فيه كبته مع تفصّ من جميع الالتزامات باسم تصوّر عن الدين لا يرى أبعد من حلّ مشكلته الجنسيّة على حسابك.
ابنتي العزيزة،
اعرف أن لغة المنع والتحريم والتجريم والعقاب والتهديد في خطاب السياسة وخطاب الدين لم تعد تنفع مع جيلكم، جيل الثورة.ورجائي أن يتفطّن رجال الدين عندنا من أهل السنة المالكيّة بالخصوص إلى ذلك ليشرعوا في التخفّف من القوالب الجاهزة الموروثة ويفكروا في قضاياكم بلغة جديدة أقرب إلى الحياة التي تنشدون : حياة الحرّيّة والتفتّح العقليّ والفكر والجسدي والجنسيّ في إطار المساواة بين المواطنين المؤمنين وغير المؤمنين مهما كان جنسهم عند الولادة مع الرفق أكثر ببناتنا اللاتي يحملن تاريخا مرعبا من الاضطهاد الجنسيّ والنظرة الدونيّة وإيجاد الحلول المبرّرة دينيّا على حسابهنّ.فأنا، يا بنيّتي، ممّن يعتقدون أنّ لرجال الدين دورا ،شأنهم شأن مختلف الفاعلين الاجتماعيّين ، في إيجاد الحلول لمشاكل الناس وبالخصوص لشبابنا المتديّن على نحو يجمع بين الدين والدنيا جمعا لا يغلّب الدين ليخسر أبناؤنا الدنيا ولا يجعل دنياهم تسير على غير هدى.
وفي انتظار ذلك اعترف لك أنني لا أملك لسؤالك جوابا وإن كنت أحدس حدسا أنّ الأمور لا يمكن أن تكون على ما اخترت ففي ما اخترت من الشرور الممكنة لكينونتك وكرامتك أكثر من الخير الذي تتوقّعين أو المنفعة التي تبحثين عنها.ورغم ذلك أكرّر لك أنني أتفهمّك و أتعاطف معك فأنت ضحيّة مجتمع مكبوت منافق ولست جلاّدا يريد أن يحطّم منظومة الحداثة التونسيّة على ما قد يبدو من ردود فعل ناقديك.
سلاما يا بنيّتي لنفسك التواقة المريدة.