• الموضوع:
« إن معرفة الغير تقتضي مني التعاطف معه ».
حدد أطروحة القولة وناقشه
• الإجابة:
الغير هو الأنا الذي ليس أنا، أي الذات التي تشبهني وتختلف عني، إنه الآخر الذي يتميز بخاصية الوعي وكونه ذات عملية أخلاقية. انطلاقا من هذا، هل يمكن معرفة هذا الغير باعتباره أنا أخرى؟ وما هي السبل التي تمكنني من معرفة هذا الغير؟ وإذا كان هناك من يرى بأن معرفة الغير مستحيلة، فما هي الحجج التي يمكن أن نعتمدها لإثبات مثل هذا الموقف؟ وهل يعتبر التعاطف مع الغير شرطا ضروريا لمعرفته؟
تدافع القولة على أطروحة مفادها أن معرفة الغير ممكنة تحت ظل التعاطف معه. فما معنى معرفة الغير؟ إن المعرفة نشاط من أنشطة الوعي والعقل تنتقل من الوسط الخارجي إلى بؤرة الإدراك، فيكون المرء معرفة تجاه موضوع أو ذات ما. والمقصود بمعرفة الغير سبر أغوار شخصيته المختلفة عني. فمعرفة الغير تعني أني أدركه على الوجه الذاتي بالدرجة الأولى وليس على المستوى الإمبريقي، لأن معرفة الغير انطلاقا من الشكل ستجعله موضوعا كما هو الحال بالنسبة لباقي أشياء الطبيعة؛ سيكون إدراك شكلي من حيث كونه موضوعا فقط.
ويرى صاحب القولة أن أساس معرفة الغير هو التعاطف معه. فما المقصود بالتعاطف مع الغير من أجل تحقيق معرفة به؟
عندما أدخل في علاقة مع الغير أجد نفسي بطريقة أو بأخرى أحاول إدراكه ومعرفته.ومن المفروض أنني أثناء تواصلي مع الغير سأتلقى منه ما هو إيجابي وما هو سلبي. ففي الحالة التي أتلقى منه رد فعل غير مرضي بالنسبة إلي فيغضبني، فإنه يكون لزاما علي أن أتعاطف معه أي أتسامح معه، لكي لا أوقف التعارف معه ويتواصل التعارف بيننا.
إذن فأساس معرفة الغير يقتضي ويستلزم مني بالضرورة التسامح معه.
نلاحظ أنه بالضرورة هنا، كشرط لهذا التسامح والتعاطف مع هذا الغير، قد يكون هذا الشرط هو وجود عاطفة حميمية تربطني به. فإذا تأملنا جيدا سنرى أنه ليس كل الغير يمكن أن نخضعه لهذه المقولة. ألا يبدو أن هناك ما يستحق تعاطفنا معه دون الآخر؟ بمعنى آخر هناك فئة من الغير هي التي نتعاطف معها من أجل معرفتها. فمن تكون هذه الفئة؟
فبحسب البعد الفلسفي الذي يمكن استنتاجه أنه ليس الكل مؤهل لهذا التعاطف، بل هناك البعض وهم الأشخاص الذين نكن لهم عاطفة الحب. فبالرغم من كوننا ندخل معهم في جدال وصراع إلا أننا نجد أنفسنا مجبورين على التسامح والتعاطف معهم، رغبة في تحقيق التواصل من أجل المعرفة. لكن إذا ما كان هذا الغير غير ذي مكانة عاطفية بالنسبة إلينا، فإننا قد نتسامح معه ولكن ربما نوقف تعاطفنا معه. ومثال على ذلك علاقة بينني وبين زميلتي أحبها وأكن لها عاطفة نبيلة، فأجد رغبة جامحة في معرفتها؛ حيث حينما تتاح لي الفرصة أبذل كل جهدي لمعرفة ذاتها وفكرها. لكن عندما يصدر عنها فعل لا يرضيني، فإنني أكون مضطرة للتسامح معها، وتتم عملية التعارف بيننا ونتمكن من معرفة بعضنا البعض.
فهل معيار التعاطف مع الغير من أجل معرفته نموذجي؟ وهل هناك من الفلاسفة من يعارض جعل هذا التعاطف أساسا لمعرفة الغير؟
بالموازاة مع موقف صاحب القولة، نجد أن هناك من الفلاسفة في الضفة الأخرى من يرى أن معرفة الغير غير ممكنة، وعلى سبيل المثال الفيلسوف سارتر الذي أكد انطلاقا من تعريف الغير باعتباره « الأنا الذي ليس أنا»، أن معرفة الغير غير ممكنة لسبب رآه مقنعا هو أن المسافة الفاصلة أو الفاصل المادي الذي يفصل بيني وبينه يحول دون معرفتي له، فلا يبقى بوسعي معرفته إلا على مستوى الشكل والمادة، فأدركه إدراكا إمبريقيا من حيث الشكل فقط. فهذه الخاصية ستجعلني أنظر إلى الغير على أنه مجرد مادة أو جسد، وبالتالي أدخل معه في علاقة تشييئية؛ هو يراني كموضوع وأنا أراه كموضوع مثل العلاقة المكانية الموجودة بين المواد والأشياء، وبهذا أكون قد حولت الغير إلى موضوع مما يدل على أن العلاقة بالغير هي علاقة تشييئية. والأمر نفسه نجده مع الفيلسوف مالبرانش الذي يؤكد بصفة جازمة على ان معرفة الغير غير ممكنة انطلاقا من ذواتنا. فما المقصود بمعرفة الغير انطلاقا من ذواتنا؟
هناك بديهيات ومسلمات أدركها تمام الإدراك وأعرف أن الغير يدركها ايضا، يعني أنني أعرف الغير انطلاقا من ذاتي. فمثلا أنا أعرف أن أربعة هي حاصل 2×2 والغير يعرف هذا أيضا، وأشعر بالبرد إذا كان الجو قارسا أو أشعر بالحرارة إذا كان الجو حارا فأعرف أن الغير كذلك يحس بنفس الشعور. لكن غالبا ما تخطئ حواسنا لأن هناك من الإحساسات التي نشعر بها لا توافق شعور الغير البتة. فمثلا عند موت أب صديق لي، فأنا أعرف أنه يشعر بالألم والحزن لكن هل أدرك قدر ذلك الألم بالدرجة نفسها؟ وهل أعرف أنه يشعر حقا بالألم؟ ماذا لو كان هذا الأب قاسيا معه وأثناء موته ارتاح منه؟ إذن فإنه لا يمكن معرفة الغير انطلاقا من ذواتنا.
أما بالنسبة للفيلسوف ميرلوبنتي، فإنه يرى بأن معرفة الغير ممكنة إذا توفرت الرغبة في التواصل معه. يرى هذا الفيلسوف بأن الرغبة في التواصل هي في حد ذاتها نوع من التواصل، وإذا امتنعنا عنه فإننا نمتنع عنه بإرادتنا ولأسباب معينة، مما يعني أن التواصل ممكنا في الأصل. ويرجع ميرلوبنتي النظرة التشييئية التي يفترض سارتر أنها تحد من إمكانية معرفتي للغير إلى عدم الرغبة في معرفة هذا الغير، وبالتالي هي مجرد انطباع لا يمكن اعتباره حجة ضد عدم إمكانية معرفته.
إن معرفة الغير تقتضي حسب ميرلوبنتي التعاطف معه، عن طريق مشاركته عواطفه ومشاعره ومعاناته، والاعتراف به كذات أخرى نتآخى معها ونعاملها معاملة إنسانية تليق بها كذات واعية وأخلاقية. ولذلك انتقد ميرلوبنتي سارتر ورأى أن النظرة التشييئية للغير تجعلني نفقده كرامته ونتعامل معه كحشرة.
ويرى ميرلوبنتي أن اللغة هي وسيلة أساسية لتحقيق أواصر التعاطف بيني وبين الغير، وربط جسور التواصل بيننا؛ إذ أن اللغة هي التي تمكن الغير من البوح بمشاعره وأفكاره وتعريفي بها.
إذا كان التعاطف إذن هو أحد السبل المؤدية إلى معرفة ذات الغير، فإنه لا يكون إلا حينما تسود علاقات الود والتآخي والاعتراف المتنبادل بيني وبين الغير، أما إذا انعدمت هذه الروابط فإن معرفة الغير عن طريق التعاطف تصبح غير ممكنة.
نستخلص إذن أن هناك من الفلاسفة من يرى أن معرفة الغير ممكنة وتتم عبر التعاطف معه والإقبال عليه، في حين يرى البعض الآخر أن معرفة الغير غير ممكنة إما لوجود فاصل وحاجز بينه وبين الأنا أو لصعوبة النفوذ إلى أعماق الغير وتجاربه الذاتية حتى من خلال التعاطف معه.
و إذا كانت معرفة الغير تتطلب مني الدخول في علاقة معه، فما هي طبيعة هذه العلاقة التي يجب أن تربطني به؟ وهل لهذه العلاقة تأثير على محاولة معرفتي به؟