هناك قول طويل عريض في معنى السياسة فمنهم من يرجعها إلى معناها اللغوي في باب ساس يسوس أي يسوق الدواب ثم يسحبهاعلى سياقة الناس وآخر يقول سايسهم أو ساسهم أي آسى بينهم أي ساوى ومنهم من يقول أن المرء إذا سيس فإنه امرَ واُمِرَ عليه أي انتظم في نظام إجتماعي وهي بالتأكيد تعني القيام على أي شئ بما يُصلحه ومنهم من يُعطيها معنى وتعابير حديثة فيعتبرها فنّا لتحقيق الممكنات من الخيارات المتاحة أي يضعها ضمن منطوق المقولة الفلسفيّة في العلاقة بين الممكن والمستحيل ومنهم من يعتبرها فن تحقيق الأهداف عبر الصراع سواء ما كان منه ذا سمات سلميّة أو بالإحتراب وهي تتميّز عن الدبلوماسيّة كون الأخيرة تعني تحقيق الأهداف بالوسائل غير الحربيّة أو العسكريّة ومن كل هذا نتعرّف إلى كيف يمارس السياسيون أو من يحلّ محلّهم مهامّه ووجائبه وبالتأكيد إنّها ليست علم محض أو فنّ محض لأنها تتعلّق بالسلوك ونعني بهذا سلوك القادة والسياسيين وما دام لكل نشاط إنساني هدف ومضمون فإنه يستلزم منهجا وفنّا للوصول إلى تلك الأهداف ولكنّها مهمّة مرتبطة بمتغيّرات متعدّدة منها الإمكانيّة من الإستحالة وبالتالي كما أسلفنا في موضع آخر بالإحتماليّة لأنها أيضا مرتبطة بالصدفة من الضرورة وبسبب تعلّقها بأمور ومتغيّرات متعدّدة كان لها العلويّة في القرار على كل الفعاليات الأخرى حتّى العسكريّة منها .
لكن أهم مقولة تنتمي لها الأنشطة السياسيّة هي حسب رأينا المتواضع ( مقولة التكتيك والستراتيجيّة) أي بمعنى آخر أبعد عن التعابير والمصطلحات الأجنبيّة هي فن العلاقة بين الأهداف بعيدة المدى والأهداف المرحليّة وهي أيضا علاقة فكريّة فلسفيّة تنتمي وتخضع لما تخضع له كافة العلاقات الجدليّة الأخرى
إن عمل السياسي ولا شك يتأثّر بشكل واسع بمعنى هذه المقولة ولكي نحاول توضيح معانيها فلنتصوّر أن جنودا يريدون أن يعبروا نهرا فهذا وحده هدف بعيد المدى رئيسي أو ستراتيجي ولكن كيفيّة العبور ومكان العبور والوسائل المتّبعة فيه كأن يكون بواسطة زوارق أو بالعوم والسباحة أو باستخدام طائرة مروحيّة أو سواها فهذا هو هدف مرحلي وقد يتبيّن لهؤلاء الجنود أن الوسيلة المتّبعة للعبور ليست ملائمة لسبب أو لآخر فيغيّرونها فهذا ممكن وهذا تغيير في الهدف المرحلي وهو لا يتناقض مع الهدف الستراتيجي أو بعيد المدى وقد يلجأ هؤلاء الجنود إلى تغيير خططهم المرحليّة عدّة مرّات لأسباب وجيهة لكنّها لا تغيّر من الهدف الرئيس وهذه مهمّة السياسي طول الوقت امّا الأهداف بعيدة المدى أوالتي أسميناها بالستراتيجيّة فهي مهمّة السياسي أيضا ولكنّها بالأساس مهمة المخطط الستراتيجي أو الفكر العقائدي مثل النظريّة الفكريّة أو العقيدة أو الدين أو أي مضمار معني بأهداف عليا ومع أن الفكر العلمي لا يفترض رسوخ وثبات الأهداف بعيدة المدى واستقرارها تماما حيث تؤثّر فيها نتائج العمل التكتيكي ومساراته ألاّ أن الفكر الديني لا يسمح بذلك إلاّ بحدود ضيّقة بسبب أن التعاليم الدينيّة ليست من صنع البشر إنما هي من عند الله تعالى ومع هذا فإن الإرادة الربّانيّة تجعل لكل عصر ولكل أمّة تعاليم تتنزّل عليهم وتتبدّل عند نزول مرسلين جدد حسبما يأتون به من رسالات ولكن ليس بإرادة البشر وحدهم إلاّ أن تكون بإرادة إلاهيّة ومن هنا نتوصّل إلى أن تبادل المواقع بين المتخصّصين بالعمل والهدف بعيد المدى وبين المتخصّصين بالعمل في الأهداف المرحليّة غير مناسب إلاّ ما كان ينطوي على تبادل الخبرة والمعرفة والبحث والدراسة لأن الناس العقائديين لا يستجيبون في الغالب لمتطلبات التغييرات المرحليّة وكذلك العاملون في الهدف المرحلي لا يصحّ تبديل موقعهم بالعقائديين لأنهم لا يرغبون عموما بإبداء مطاوعة كبيرة إزاء الأهداف البعيدة كما تعلّموا في التعامل مع المرحليّة منها فيفرّطون بها .
ويتبيّن هنا أن العمل السياسي يتطلّب المرونة والقدرة على تبديل الأهداف المرحليّة ولكن في سبيل الهدف المركزي بحدود مناسبة أمّا العقائدين فعملهم يتطلّب الثبات على المبادئ الراسخة إلاّ في حدود مرونة بين فترات أوسع من المديات المسموح بها للسياسيين .
ولكن هل نجد هنا أن السياسة تسمح بأي سلوك لا أخلاقي مثلا؟
إن متطلبات الصراع كثيرة ولكن من المهم أن لا نحاول أن نتتبّع منهج الخصم في سرعة تجاوز قواعد أيّة لعبة وهذا من ضمن العمل السياسي وأتذكّر قولا لأحد أصدقائي من الذين درسوا وعاشوا في المملكة المتحدة حيث روى لي الحكاية التالية: حدث وأن أصبح له صلة صداقة مع شرطي بريطاني وكانا يقضيان وقت فراغهما معا وفي يوم رآه ببزّته العسكريّة وهو يحمل عصاه التي يُشتهر بها شرطة بريطانيا( الهراوة) فقال له صاحبنا : ما ذا تصنع لكم هذه الهراوة لو اشتبكتم مع اللص ؟ وهو قد يحمل سلاحا جارحا أو ناريّا؟ أليس من الأفضل أن تحملوا بندقيّة كما تفعل شرطتنا؟ فردّ عليه الشرطي البريطاني قائلا : نحن نتعلّم في مدرسة الشرطة أن اللص أو المجرم ينظر إلى سلاح الشرطي فيختار سلاحه فإن وجد أن الشرطي يحمل هراوة فقد يحمل اللص سكّينا أو خنجرا وإذا وجده يحمل خنجرا أو سيفا فإن اللص يحمل مسدّسا وإذا وجد الشرطي يحمل بندقيّة فإنه قد يحاول أن يحمل رشّاشا أو عبوة متطوّرة وهكذا وما دام الأمر ذلك فإن من مصلحة الشرطي أن يخفض مستوى التسليح أدنى ما يمكن حتّى لا يكون ما يتحصّل عن المواجهة دمارا كبيرا وخسائر لا تعوّض وهذا إجراء سياسي حكيم ولهذا فإن الخصم إن لم يلجأ إلى أعمال غير أخلاقيّة فإنه من مصلحة المتخاصمين أن لا يلجأوا لرفع مستوى التصادم ولهذا لا يُفترض العمل اللاأخلاقي في العمل السياسي إلاّ إذا وُجد أنه حاصل بالتأكيد وفعلا وخلافه فلا مصلحة لأحد لزج نفسه فيه إذ كلما كان الصراع أنظف كانت نتائجه في صالح الجميع ولهذا لا يجب أن نقول أن السياسة تنطوي على أعمال لا أخلاقيّة بل يجب أن تكون مسالكها بالأساس أخلاقيّة كلما أمكن الوصول إلى ذلك وإلاّ فكيف يكون من معانيها القيام على أي شئ بما يُصلحه.
ولا يوجد شئ في الدنيا يحتاج إلى الحكمة قدر ما تحتاج له السياسة ونعني بالحكمة هنا وضع الشئ في موضعه أو أن كل رأي أو إجراء أو قرار يجب أن يحتل مكانه الملائم له ويتوفّر له الزمان المناسب أيضا .
وهناك سمة أو خصلة يُستحسن وجودها أيضا وهي الخبرة فالآية تقول: ( بسم الله الرحمن الرحيم. فلا يُنبّئُكَ مثلُ خبير. صدق الله العظيم ) فضلا عن أن الخبرة الطويلة بالإضافة إلى الموهبة وحسن الوعي والنباهة يمكن أن تُنتج أهم ثمرة للسياسة وهي الحدس وحُسن بناء التوقعات ولكن لا يجب أن يُركن إلى الحدس وحده بل يُمتحن بالمعلومات ومعالجاتها وبالمشورة أيضا .
هل نستنتج من كل هذا أن السياسة عمل أخلاقي؟