الموضوع: قيل: " يعيش الإنسان المعاصر أزمة هوية"
حلّل هذا القول و ناقشه.
التحرير
كلّما تطلّع الإنسان إلى ما يظهر عليه الواقع المعاصر إلاّ وانتابه شعور بأن كائن اليوم هو أكثر الكائنات توازنا على امتداد التاريخ البشري. ولكن يبدو أن هذا الشعور لا يحمل من صدقه إلا مظاهر تعلن عن صورة أكثر تخفيا يجب الكشف عنها لاكتشاف " أزمة عصر" بتعبير إريك فروم و لما كان الإنسان " ابن عصره" و كان هذا العصر قد تأزم فإن ذلك يعلن بالضرورة عن أزمة الإنسان في علاقته بهويته.
فما الذي تعنيه أزمة الهوية؟ وهل يجب القول أنه لا وجود لأزمة بل هي مجرد تداعيات يفرضها واقع المتغيرات الإنسانية أم يجب الإقرار أن الإنسان يعيش أزمة هوية داخله وتحتدّ هذه الأزمة لأنه شديد التمسك بهذه الهوية؟ وإذا افترضنا أن لكل أزمة مظاهرها التي تخصها والتي تشرّع لتحديدها فما هي تجليات هذه الأزمة على الإنسان؟ ألا يمكن القول إن الأزمة مفتعلة تشرّع لها بعض الهويات المنغلقة والتي تفتقد إلى مستطاعات التكيف مع مطالب الواقع الحضاري اليوم؟
إن تفكيك بنية الموضوع و صياغته تعلن عن موقف تقريري يؤكد أن الإنسان المعاصر يشهد أزمة حقيقية داخله. ويعيّن نوع هذه الأزمة وهو بذلك يحدد طريقة لمعالجة هذه العلاقة المفترضة بين ما يكون عليه المعطى الزمني بالإحالة إلى الواقع المعاصر. ولكنه من ناحية أخرى يربط بين الإنسان المعاصر والأزمة التي تسكنه وكأن أزمة الهوية قد انعكست على إنسان اليوم فتحولت إلى أزمة الإنسان.
ولهذا الموقف مبرران أولهما أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش دون هوية تكوّنه أو تخصّه. وثانيهما أن كل أزمة في الهوية هي أزمة إنسان يحملها ويستمر بها وهو ما يبين هذا الارتباط الوثيق بين الإنسان وهويته.
لمّا كان الإنسان لا يتحدد بذاته بل بشروط انتمائه أو بواقعه الذي يسكن داخله ويكوّنه كان لزاما أن تتحقق صورة الإنسان لا من خلال ما يخبر عن نفسه وإنما من خلال واقعه الذي يؤثر فيه ويرسم صورة للإنسان. فواقع اليوم يحمل من قوة التأثير ما يجعل كل البشر يطمحون إلى المماثلة والتشابه فيما بينهم.
إذ يكفي معاينة الإنسان داخل الواقع حتى يقع اكتشاف أن هذا الواقع هو واحد بالنسبة للجميع و هي الصورة التي يقع الترويج لها إعلاميا و اقتصاديا و ثقافيا و حضاريا.يتمتع الواقع المعاصر بخاصيات تميزه و تشهد بانتمائه التاريخي كآخر مرحلة زمنية توصّل إليها تطور العقل البشري و وصل إليها الكائن الانساني و التي كرست ما يسمى اليوم بالحضارة التقنية و هي حضارة تقوم على مراكمة تكنولوجيا الأشياء و على إنشاء و تعميم الثقافة الرقمية التي تميزت بكثافة في انتقاء المعلومات و سرعتها إلى حد تحول فيه العالم إلى قرية كونية يشعر فيها الإنسان بأنه يعيش في عالم واحد و موحّد و لهذا التطور العلمي التقني انعكاسات حقيقية على سلوكات الإنسان و على تمثلاته و تصوراته أو علاقته بنفسه و بالآخر فالجميع اليوم يستعملون نفس الأدوات و يتشابهون في استخدام الوسائل التقنية ذاتها. مما جعل الإنسان يعتقد بمجرد حصوله على هذه الأدوات التقنية المتوفرة و المتعممة انه قد أصبح شبيها بغيره. فجميعنا اليوم مهدّد باختراق الثورة التقنية لحياته الخاصة و هو لا يستطيع الإفلات منها أو مقاومتها بل نحن مهددون بنوع جديد من الأصولية هي " الأصولية الالكترونية".
توجد خاصية أخرى ميزت الواقع المعاصر و من ثمة ميزت إنسان هذا العصر فالإنسان لم يعد يقاس انتماؤه بما يحمله من أفكار أو ثقافة أو حضارة و إنما أصبحت تقاس قيمته باستعماله لهذه الأدوات التكنولوجية.فأصبح يقع التمييز بين المتحضر و الهمجي استنادا إلى ما يمتلكه و كأن هذه الثقافة الجديدة التي يؤسس لها واقع العصر هي ثقافة امتلاك أي امتلاك مكتشفات تكنولوجية في شكل أدوات يقع استبدالها باستمرار.
من الخصائص الأخرى الناتجة عن نظرية الاستبدال التكنولوجي لواقع هذا العصر هو ما تأسس من ثقافة جديدة هي ثقافة الاستهلاك فالإنسان المعاصر اليوم يستهلك ما يحتاج و ما لا يحتاج الأمر الذي حوله إلى " حيوان استهلاكي " لا يحسن التمييز بين ما يريد و ما يحتاج و بين ما يتحقق و ما يرغب. كأن هذه الثقافة قد ألغت داخله كل شروط انتمائه إلى ما هو عقلي و دفعت به إلى أن يصبح كائنا تابعا أو واثقا لا بالعقل و إنما بالأهواء. لقد شكّل كل ذلك تربية جديدة قلقة و نهمة في الوقت نفسه بل تم التعجيل باستخدام ثقافة أكثر توافقا مع إنسان اليوم و متحررة من حدود الزمان و المكان لتعلن عن ميلاد عصر جديد و متسارع ذلك ما بشر به ادواردو بورتيلا بقوله" من المصانع إلى الأسواق الثقافية الاستهلاكية، من الأكشاك إلى الشاشات تجري عملية تربوية أو عملية إعادة تأهيل صورة الحداثة و مثالها".
ليس الإنسان المعاصر وفق هذه الصورة إلا نتاجا لإستراتيجية موجّهة تعمل على محاصرة الإنسان أو صنع إنسان وفق معايير و مواصفات يسهل معها التحكم فيها أو مراقبتها مثلما يتّضح ذلك من داخل مجال العلوم الإنسانية.
إلى جانب ذلك يحرص الواقع المعاصر على إنشاء اتيقا جديدة تكرس بعض المبادئ الكونية في إنسانيتها مثل تحقيق المساواة بين كل الشعوب و إنشاء مبادئ عادلة توازي بين الأمم و لا تكترث للفوارق القائمة بينها أو مثلما يطلبه الإنسان من حرية يعمل على تحقيقها لأنها جوهر ذاته أو ما ينشده من حقوق إنسانية هي جوهر تحققه و احتراما لكرامته الإنسانية.
كل هذه المبادئ قد أسست لثقافة إنسانية جديدة و قد غيّرت من سلوكات الإنسان و مطالبه فأصبحت المبادئ التي توحّد الأفراد هي آخر المبادئ التي بإمكان الإنسان أن يتمسك بها.
إن هذه الفلسفة الثقافية الجديدة لم تعد تهتم بما يكون عليه الدين أو بما تكونه اللغة أو بما ينتمي إليه الإنسان من حضارة يعتقد معها أنها حضارة متأبّدة لا يتسلّل إليها الفناء على العكس من ذلك تماما يحرص الواقع المعاصر على أن ينتج " ثقافة تطبيعية" تزول فيها كل الفوارق و يتحول بموجبها العدو إلى صديق حميمي لعدوه هكذا تحدث ادغار موران و هو يدعو إلى صداقة لعدو ليعمق من إقحام الآخر و إدماجه في الأنا الذي يخصّنا بالتعاطف و الصداقة و الحب.
بهذا المعنى أصبح الإنسان المعاصر شاهدا على عصره و لكنه أيضا و بنفس الدرجة خليط متداخل من التصورات الفكرية و الإيديولوجية و الحضارية التي بدأت تهدّد هويته مثلما بدأت تأزم علاقته بنفسه و بانتماءاته التي كان حريصا على الوفاء لها.
أليس إنسان اليوم هو الذي تداخلت الأفكار لديه فانتهى إلى تناقض شنيع لا يكاد يميز فيه بين ما يكون منسجما مع ذاته و بين ما يكون دخيلا عليه؟ ألم يفقد الإنسان آخر معاقل انتمائه فأصبح مشابها للجميع و لكنه لا يشبه نفسه؟ ألا تحدثنا آخر الإحصائيات العلمية في مجال علم الصحة و النفس عما يشعر به الإنسان المعاصر من لامبالاة حيال كل القضايا الإنسانية و كأن الواقع الانساني اليوم لم يفعل إلا تضخيم نزعة الأنانية و هو الذي يزعم توحيد البشرية؟ ألا يكون مفهوم الهوية الثقافية اليوم محاطا بوعود الثقافة الكونية و هو يستعد لرسم ملامح جديدة للعالمية التي كونت تفكيرنا فشوهته و ما عمقته؟ أيستطيع أن يستلهم قول ادواردو بورتيلا " كيف يمكن أن ندخل التكنولوجيا إلى الثقافة و أن نختزلها في أنماط و أن ندّعي في الوقت نفسه أن تبقى ثقافة؟"
فمن أين للبشرية بكانط جديد يعلمها فلسفة الحق أي حق كل البشر في الملكية المشتركة لسطح من الأرض؟
تعلن كل أزمة عن نفسها بأحداثها التي تشكلها و هو واقع هوية الإنسان الذي فقد فيه كل ما يجذر هذه الهوية أو يجعله قادرا على الانتماء إليها.
فإذا ما كانت الهوية هو ما يجعل من الشيء هو نفسه دائما انطلاقا من مجموعة صفاته الجوهرية أي انطلاقا من هذه المطابقة و المماثلة التي تتقيّد بفكرة الثبات و تنفي عن نفسها كل المتغيرات التي تفسدها و تنكر عليها ما يكونها فإن ذلك يزيد من أشكلة أزمة الهوية .فأمام واقع المتغيرات الذي يلزم الفرد بالتكيف مع هذا الواقع لينشد كل ما يتعلق به و أمام نظام الاستبدال المتزايد الذي لا يعترف بما هو ثابت و إلا لازمه الوهن،
كان من الضروري أن يتسلل هذا النظام إلى الهوية ذاتها إذ لا معنى لهوية ثابتة و قد هبت عليها رياح التغيير بفعل انفتاح الثقافات على بعضها من ناحية أو بفعل المرونة التي أصبح عليها الإنسان المعاصر في تعامله مع ثقافة الآخر خاصة و انه يمتلك المجال النفسي الرحب للتأثر بكل حضارة أو ثقافة وافدة عليه بدعوى التمدّن و الانفتاح و الحق في الاختلاف. و لكنه ينسى أن الإنسان اليوم لا يمتلك الأدوات و الشروط اللازمة لإبداء المقاومة التي يحتاجها كل دفاع على الهوية بعد أن سلبت كل الأدوات و الاستعدادات الإنسانية للدفاع عنها و ذلك ما يوضحه ايريك فروم و هو يعيّن أزمة الهوية.
إذا كان كل مفهوم يأخذ دلالته مما يوسع و يعمق من تثبيت تعريفاته فإن مفهوم الأزمة يحمل في ذاته ما يعيّن هذه الخصوصية في مستوى فهم أزمة الهوية بما أن الأزمة في احد معانيها هي ما يحيل على المشكل الحقيقي الذي يهدّد بالارتجاج و الاضطراب و يعلن عن فقدان كل أشكال التوازن الذي بإمكانه أن يحفظ صاحب الأزمة.كذلك كان الشأن بالنسبة للهوية التي أصبحت تلاقي من العوائق ما لا يمكن معه تبيّن مميزات هوية الإنسان. إن التداخل الرهيب الذي أصبحت عليه الخصائص الإنسانية عجل لا بطمس هذه الهوية أو تشوّهها فحسب و إنما حوّلها إلى واقع للسخرية أمام كل مقاومة يبقي على البعض منها. كأن الهوية الحقيقية اليوم هي هوية التشيئة التي يسميها فروم " بتمدية الإنسان" أي إنشاء قيم جديدة تتحول فيها العلاقة بالأشياء إلى القيمة الحقيقية التي تتفوق على قيم المعنى.
فنقد الحداثة كما مارسه نيتشه و هيدغير بقدر ما بشّر بنهاية الميتافيزيقا فإنه قد انتهى إلى نظرية متهاوية تعلن عن " الانطولوجيا الضعيفة" التي اضمحلت فيها بنى المقدس القوية و هكذا يقيم البحث البائس عن الحقيقة المطلقة جنبا إلى جنب مع الإحساس " بفراغ الوجود".
يحرص الواقع اليوم الذي لا يعنيه من الهوية إلا ما يتحقق من قيم نفعية على جمع الأنا بالآخر لا في معنى الانفتاح الحيوي و الديناميكي و الانساني و إنما في معنى سعي الإنسان إلى أن يفقد كل روابطه التي تشدّه بنفسه أو التي تشدّه بالحياة حتى يمكن السيطرة عليه و إخضاعه و ترويضه وفق المعادلات العجيبة التي تنشؤها الأنظمة الاقتصادية الجديدة و التي يتحول الإنسان بمقتضاها إلى عنصر من هامش تنمية الثروة عند اكبر " الرأسماليين في العالم".
وفق هذا التصور تتأكد صورة فهم خاصة للحرمان المتزايد الذي تعيشه البشرية اليوم فدراسات علم النفس تلازم السعي الجاد لتخلي الإنسان عن هويته بتضاعف الحرمان و كأن إستراتيجية المناورة ضد ما يدعّم الهويات لا يمكنه أن ينجح إلا إذا ما تم توسيع دائرة الحرمان.
إضافة لكل ذلك يمثل واقع العولمة اليوم التقنية الأكثر عنصرية في تهديد كل هوية بل لعل واقع الصراعات الثقافية ليس واقعا حقيقيا إلا لأن الشبكة الإعلامية الدولية تغذّيه و تعمل على استثماره.
و من هذا المنطلق فإن الصورة المثالية أو المبالغة في الايجابية التي نرسمها عن العولمة على أنها انفتاح باتجاه تعميم نموذج هذه الصورة يجب أن يعاد النظر فيها جديا و بكل تبصّر ذلك ما ينصح به جاك دريدا فالعولمة لا تتحقق و تجد رواجا لنفسها إلا في ظلّ التخلّي عن مبدأ الهوية الذي يهدّد مصالحها و يكشف أقنعتها الاستعمارية و الامبريالية إلى حد تحوّل فيه التطرف إلى تطرف مزدوج فليست الهويات هي التي تتعصّب إلى أفكارها أو تنغلق على ذاتها بل أصبح نظام العولمة ذاته يواجه التطرف بتطرف مماثل الأمر الذي يعكس حقيقة فهم الواقع الانساني الذي تدعو إليه العولمة.
يعيش الإنسان المعاصر اليوم أزمة حقيقية قد انعكست على صورة فهمه لنفسه فلم يعد قادرا على أن يفهم التمثلات و الأفكار و المذاهب التي تتسلّل إليه كل يوم و التي تحمل من المفارقات ما يدهشه و يزيد من تعميق اغترابه.
فبين ما تروّج له المشاهد الإعلامية التي تتبنّى العولمة و بين حقيقة ما يقع داخل الواقع الانساني المعاصر تزدحم التناقضات مما يزيد حالة الفهم تعقيدا ذلك ما يؤكده فرانشيسكو سغاستي بقوله" إن العولمة قد تقربنا من بعضنا البعض لكنها تعزز الفوارق الاجتماعية و المالية لا سيما الثقافية التي تبعدنا عن بعض" . و هو ما يذكرنا حتما بما يحتدّ من صراع قائم على مفارقة متصدّعة فاللحظة التي تفترق فيها دروبنا هي نفس اللحظة التي نرى فيها وجوهنا و غايتنا بوضوح مما حوّل فكرة العولمة إلى جهاز حقيقي ينفي كل إمكانية للقاء الإنسان بالإنسان إلا بمحض ما يتكرس من أهداف نفعية يجب استثمارها و التخطيط لها استراتيجيا.
ما دامت العولمة مثقلة بهذه الايدولوجيا التي تنتصر لمستقبل تقني عوض الانتصار لمستقبل الإنسان مما جعل البعض يقول " بنهاية إيديولوجيا عالم باكونين التي كانت تدعو إلى ضرورة الإفادة من العالم لتحسين مصير الإنسان على الأرض".
لم تعد العولمة تكتفي باستبعاد الهوية " كخصم عنيد لها" أو كعائق يحول دون تحققها و يهدّد رواجها و إنما اتخذت لنفسها أسلوبا آخر في العمل يوهمنا بوجود تطور خطي في الانتقال من العولمة الصلبة إلى العولمة الناعمة و ليس لها من هدف في كل ذلك إلا مزيد إرغام الإنسان على التنازل عن كل شيء و أولها هويته التي يكون بها و يصرّ عليها.أليست العولمة بهذا المعنى فرضا لنموذج الثقافة الغربية المركزية التي تشرّع لثقافة ذات بعد واحد و للقطب الواحد و للفكرة الواحدة التي لا تصنع إلا إنسانا ذا بعد واحد؟ ألا يمكن القول إن هذا النموذج لا يعترف بالهويات المتعددة و إنما يعترف بهوية هي هوية مزاعم العولمة؟ هل يجب القول إن العولمة لم تكتف بإدخال الهوية في أزمة و إنما حولت الهوية الإنسانية إلى هوية دعية و متكبرة و مغرورة بتحول كل الكائنات الإنسانية إلى كائنات مرضية تعاني من انفصام في الشخصية لنكون " كلنا غربيين" نتكلم و نتصور و نتصرف و نسلك وفق نموذج واحد نصّب نفسه بفعل الارتقاء المغرور إلى ثقافة سيدة على كل الثقافات الأخرى و هو ما يفسّر اليوم هذا الصراع بين الهويات الخاصة و بين المذاهب و الأنظمة السياسية التي تدعو إلى ثقافة علمية في نسختها المعولمة ؟
وفق هذا المنظور تتخلى كل ثقافة عن هويتها بدافع التماثل و الانخراط في قواعد العولمة بمقتضى ما تروج له من أفكار تحرض على الانفتاح و لكنه انفتاح على شعب آخر و تدعو إلى التسامح و لكنها تواجه ثقافة الآخر بالحقد و الازدراء و التباغض و تجهد نفسها باكتشاف آخر الأدوات و التقنيات التي تقنع بها الشعوب بأنها ثقافة الحياة و هي التي تمتلك آخر تقنيات صناعة الموت. ذلك ما تحدثنا عنه آخر المشاهد الإعلامية التي تزوّر صور الموت لتحوّل المعارك الحربية إلى " ولائم احتفالية"..
ليس بمقدورنا اليوم أن نمتلك الهوية و لكن أصبح بمقدورنا شيء واحد و هو أن نحمل على الاعتقاد في هوية كونية نرفضها و هو منتهى القسوة حيال ما يجب التعامل معه في علاقتنا بهويتنا. فحينما يفقد الإنسان وعيه الذاتي بهويته يستوجب الأمر إعادة النظر في كل شيء ليصالح الإنسان نفسه مع ثقافته التي ينتمي إليها أو حضارته التي بها يكون لتجاوز ما يسمى السقوط في فخ الطوباويات المستحيلة." اذ لا يمكن أبدا السير في الطريق لمن يتكلم بعشرين فم في الوقت الواحد" كما كان يقول جاك دريدا.
لا يخلو الموضوع من توجيهات تؤصل لرهانات حقيقية منها ماهو نظري و منها ما هو عملي.
أما الرهان النظري فالمقصود به أن البدائل التي تنصّب نفسها كمعوّض للهوية هي بدائل فاشلة و لا يجب الانتصار إلى التصورات التي توجهها الإغراءات المعرفية في بعدها التقني كأن التطور المعرفي التقني قد انعكس سلبا على تمثلات الإنسان في علاقته بهويته و هو ما يجب التنبّه إليه.
أما الرهان العملي فيعني التحذير من نهاية الأوهام التي تزداد انتشارا داخل الواقع الانساني باعتبار أن التكامل و الشمولية الإنسانية هي ثقافة أسماء يجب التخلي عنها و العمل على تصحيحها لأن للواقع أحكامه و تقديراته الخاصة التي لا يمكن تجاوزها و للإنسان طبيعته التي تتشكل في أفق هذا الاختلاف و لكنه اختلاف يحفز على التفاعل و ليس للتصادم.
يعلمنا مطلب الموضوع أن ما يدّعيه الواقع الانساني من تجانس تتخفى داخله لحظة تصدّع حقيقي تخبر عن أزمة يجب الإعلان عنها أو على الأقل التفكير فيها. كأن الواقع اليوم يسير نحو عملية توحيد و استيعاب و إعادة بناء على حد تعبير مارسال موس. أي كأن الواقع الانساني مدعوا اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى مواجهة أزمته فيه المحددة بنوعها " الهوية" و إلى مقاومة هذا العالم اللاشخصي الجماعي المزعوم و السطحي القائم على قواعد برغماتية تتشكل من خلالها أدوات السلطة و توجب انتقال السيادة.
يتجاوز مطلب الموضوع أيضا التوازن الذي تروج له الخطابات السياسية و الإعلامية ليفضح " إستراتيجية الحرب السرية" التي تحاك ضد الهوية و ليكشف تلك الأوهام عن حوار الثقافات بما أن أزمة الهوية ليست أزمة مجال بل هي أزمة إنسان في كل أبعاده الثقافية و العرقية و الدينية و هو ما يشرع لأن يأمل الإنسان في إعادة تشكيل شروط جديدة خارج القواعد الإيديولوجية التي تبحث عما يمكن من إخضاع الإنسان للسلطة بدون هذا الهروب سيكون الإنسان سجين الآخر القوي الذي يستضعفه و يعمل على تطويعه لمصالحه.أفلا يمكن القول إن حاجة الإنسان للهوية تنتفض دائما لتنتصر على كل أزمة؟
لعل ما يستدعيه التنسيب من مساءلة الضمنيات التي ينبني عليها الموضوع كفيل بأن يكشف حقيقة ما يقع الترويج له نحو الإعلان عن حدود المواقف التي تعتبر أن إنسان اليوم يشكو أزمة هوية.
إن أولى لحظات التنسيب يمكن تثبيتها انطلاقا من الواقع ذاته فالتيارات المناهضة للعولمة و المندّدة بكل أشكال الاغتراب الحضاري و الثقافي تعلن بوضوح انه يوجد اليوم من يتمسك بهويته و يعمل على الوفاء و الدفاع عنها ذلك ما يشهد به الصراع الدائم بين ما يسمى بالخطاب " الإرهابي" و الخطاب" العلماني" ليؤكد أن الأزمة مفتعلة و انه بقدر ما تكرس العولمة إستراتيجية العتاد الإعلامي يواجه كل ذلك بإصرار عنيد على التمسك بالهوية و ليس على التنازل عنها.
أما ثاني لحظات التنسيب فهو ما تؤكده الدراسات الانتروبولوجية و الاجتماعية التي تبين أن الإنسان يتيقّظ داخله الشعور بالانتماء أكثر عند حالات الاعتداء على هويته أو عند إصرار غيره من المتربصين بهويته على النيل منها بأن يضاعف من التمسك بهويته و تحقيق المزيد من الالتفاف حولها.
إن الأزمة على عكس ما يذهب بعض المتشائمين لا يمكنها أن تخبر عن حالة مرضية تهدد الهوية و إنما تخبر عن قيمة هذه الهوية التي يتربص بها أعداؤها لوهنهم و عدم قدرتهم على إزاحتها أو التغلب عليها. فعند الأزمات تنتصب الهوية قوية لتدافع عن استمراريتها و ليس عن اندثارها أو نهايتها مثلما ذهب إلى ذلك شيبلنغر.
لا يجب الحديث اليوم عن أزمة هوية بل عن إيجاد ما يكفل للذات القدرة على فهم الآخر و الثقافات المختلفة و ذلك ما ينصح به ماركس حينما يتكلم عن " إمكانية فهم التكتلات البشرية التي لم تفهم أبدا أي شيء عن نفسها".
يمكن القول مع كلود ليفي ستروس في كتابه " العرق و التاريخ" إن كل هوية و بدافع البحث عن استمراريتها تتعرض إلى صراع قد يفقدها البعض من توازنها و لكن أكثر الهويات قوة هي الهوية التي تكون أكثر ثباتا حتى و إن اعترضها ما يهددها.بل لعل أزمة هوية ما تنفتح دائما على اكتشاف ما يؤصل قيمة هذه الهوية.
أما القول بأن الإنسان المعاصر تخترقه أزمة هوية فإن الأمر يكاد يكون محسوما على الأقل استنادا إلى القاعدة الخلدونية التي ترى أن صراع الهويات" يقتدي فيه المغلوب بالغالب" و لكن هل يمكن لمن نشأ على التمسك بهويته أن يتركها معرضة لأي هزيمة ذلك ما يكشف عنه تاريخ الحضارات و تاريخ الأعراق الذي يبين أن الغزاة يفرّون و هم يعتقدون أنهم قد انتصروا في معاركهم؟