العلوم الإنسانية
مقدمة
إن التطورات التي عرفها العصر الحديث على جميع الأصعدة، السياسية منها والإقتصادية والاجتماعية، علاوة على الوعي بالتاريخ كبعد أساسي في حياة الإنسان، كان طبيعيا أن تنشأ علوم جديدة تهتم بالإنسان لتحديد ودراسة فاعليته على مستويات ثلاثة:
-- كفرد له فاعلية داخلية وقدرات عقلية وطاقات انفعالية ، وهذا هو المستوى السيكلوجي (علم النفس..).
-- كمنتج لحضارة تتغير عبر الزمن، وهذا هو المستوى التاريخي.
-- كجماعة لها فاعلية تتحدد في تكوين علاقات اجتماعية، وهذا هو المستوى السوسيولوجي (علم الاجتماع).
والسؤال هو : هل سلوك الإنسان سلوك يمكن أن يرجع إلى علاقات محددة تتيح الوصف والتنبؤ أي تتيح قيام قوانين أم أن الإنسان من طبيعة تفوق كل تحديد؟
وقبل أن نعالج مختلف جانب هذا الإشكال، سنتعرف على الظروف العامة التي رافقت نشأة العلوم الإنسانية ومدى تأثيرها على طبيعة هذا الإشكال المطروح.
[ تأخير تكوين العلوم الإنسانية]:
لا يمكن فهم هذا التأخير إلا في إطار مقارنة العلوم الإنسانية مع علوم سابقة حققت في مجالها نجاحا وتقدما كبيرين كعلم الفيزياء مثلا. فالخطوات الكبرى التي قطعها هذا العلم نتيجة اعتماده على منهج يقوم على الملاحظة والتجريب والتكميم، جعلت ثمة هوّة بينه وبين العلوم الإنسانية. لقد تمكنت العلوم الطبيعية من التقدم نتيجة استقلالها في منهجها عن كل آثار ذاتية إنسانية ، وكذا عن النظريات الميتافيزيقية والأفكار الغيبية. لهذا كانت معرفة الإنسان للطبيعة أوفر وأدق من معرفته لذاته سواء في علاقاته المجتمعية أو في سلوكه أو في تاريخه. لكن تأخير تكوين العلوم الإنسانية لا يرجع فقط إلى إغراقها البعيد في التأملات الذاتية، بل يرجع كذلك إلى عراقيل أخرى ذات طبيعة خاصة. فالتساؤل حول بداية العلوم الإنسانية لابد أن يواجه بصعوبات كثيرة نظرا لأن هذه الدراسات لم تظهر بشكل واضح إلا في القرن التاسع عشر، ولأن انفصال وتحديد ميدان كل علم على حدة استغرق مدة طويلة. بيد أن كل هذا لا ينفي وجود جذور عميقة لهذا الاهتمام بالإنسان في الفكر الفلسفي القديم؛ إلا أن الشيء الأكيد والذي لا يمكن الشك فيه هو أن تطور العلوم المتعلقة بالمجتمع أو بالإنسان ونموها لا يتم إلا من خلال أزمات يمر منها المجتمع، أزمات ذات طبيعة مجتمعية أو سياسية. وعلى حد تعبير مونرو Monnerot فإن ميلاد العلوم الاجتماعية هو " إحدى العلامات السريرية على التفسخ المجتمعي وسعى تلك العلوم إلى حده وإصلاحه".
لهذا يمكن القول أنه منذ القديم حتى القرن التاسع عشر كانت هناك عوائق كثيرة تحول دون تطور فكرة العلوم الإنسانية. ومن ثمة لا يمكن الحديث عن مراحل واضحة أو تطور دقيق لهذه الدراسات خلال تلك الفترة الزمنية، كما هو الحال بالنسبة للعلوم الطبيعية، نظرا لأن طبيعة المواضيع في العلوم الإنسانية مرتبطة بالتطور البطيء لطرق التفكير التي تتداخل فيها عوامل فلسفية ودينية واجتماعية وايديولوجية. إذن كانت هناك عوائق موضوعية وذاتية تعرقل نمو وتطور علوم الإنسان بشكل عام.
2) إشكالات نموذجية:
- المشاكل الابستمولوجية العامة:
نتج عن الوضعية التي وجدت فيها العلوم الإنسانية كثير من الصعوبات والعوائق نجملها فيما يلي:
أ- إن تحول الإنسان إلى موضوع مركزي للدراسة سيدفع إلى نشوء مشكل الموضوعية حيث سيرتبط أساسا بتداخل الذات العارفة والموضوع أي الذات المدروسة، وتكمن صعوبة تحقيق الموضوعية حسب جان بياجيJ.Piaget فيما يلي:
- لا يوجد حد فاصل بين الذات والموضوع، لأن الذات هي الموضوع ، بينما الموضوعية تقتضي فصل الذات عن الموضوع أي حسب تعبير بياجي حذف التمركز الذاتي.
- أثناء الملاحظة قد يحدث تغيير في الذات باعتبار أنها جزء من الظاهرة نفسها، في نفس الوقت قد تؤثر الذات الملاحظة في الظاهرة فيسبب لها تغييرا.
- اعتقاد الملاحظ بقدرته الحدسية على استكشاف الظواهر الشيء الذي يدفعه إلى الاستغناء عن التقنيات التي تقتضيها الموضوعية.
- تتعذر الموضوعية عندما يكون الموضوع مكونا من ذوات، بحيث يستحيل عزلها عن إطارها الاجتماعي كما هو الشأن بالنسبة للظواهر الفيزيائية التي يمكن عزلها عن محيطها الطبيعي.
ب- علاوة على المشكل الذي ينتج عن تداخل الذات والموضوع ، هناك صعوبة أخرى تنتج عن تداخل مواضيع العلوم الإنسانية فيما بينها ، فالعلوم الإنسانية تدرس الإنسان على المستوى السيكلوجي والسوسيولوجي والتاريخي، لكن كل دراسة لا تفصل بالأساس عن الأخرى ، إذ لايمكن فهم الإنسان نفسيا إن قمنا بعزله عن إطاره الاجتماعي والتاريخي، كما لا يمكن دراسة مجتمع ما خارج التاريخ، بمعزل عن دراسة حاضره أو على الأقل عن وعي بأحداثه الحاضرة. لقد نشأ عن هذا التداخل صعوبة تحديد كل علم على حدة ، وصعوبة وضع منهج خاص لكل علم.
ج- لقد تحدد موقف العلوم الإنسانية في مقابل العلوم الطبيعية، وقد كانت هذه نموذجا بهر علماء الدراسات الإنسانية، فحاولوا تتبع خطى هذه العلوم ، وأرجعوا تقدمها ونجاحها إلى اعتمادها على منهج خاص هو المنهج التجريبي. بيد أن هذه النظرة خلقت صعوبة ثالثة وهي صعوبة التجريب على الظاهرة الإنسانية، ومشكل الحتمية ، وترجع صعوبة التجريب إلى طبيعة الموضوع الذي يختلف عن موضوع العلوم التجريبية، لأن الظاهرة الإنسانية لها خصوصيات منها :
- إنها ظاهرة معقدة تتداخل فيها عدة عوامل اجتماعية وسياسية وفكرية ودينية...
- إنها ظاهرة متطورة وليست تابثة مما يجعل تكرار التجريب صعبا بل مستحيلا في نفس الشروط.
- إنها ظاهرة واعية باعتبار أن الإنسان ذات واعية قادرة على التلفظ والتعامل بأنساق دلالية ورمزية.
هذه الخصوصيات هي التي جعلت كلود ليفي ستراوس C.L. Strauss يقول : " لاشك أن في العلوم الإنسانية كثيرا من الأمور ذات أهمية بالغة ؛ على هذا العائق الكبير تعثرت السيكلوجيا التجريبية منذ سنين، لقد قامت بالقياس تلو القياس ، لكن في حين أن في العلوم التجريبية برهنت التجربة على أن تقدم القياس يتناسب مباشرة مع تقدم المعرفة ، في السيكلوجيا عكس ذلك، لوحظ أن الأمور الأقل أهمية هي الأكثر قابلية للقياس ، وأن تكميم الظواهر السيكلوجية لا يصاحبه أبدا اكتشاف دلالتها ... وهكذا أدى الأمر إلى أزمة حادة في السيكلوجيا المدعوة بالعلم".
إن هذه الصعوبات التي أتينا على ذكرها تتخذ طابع عاما بالنسبة للعلوم الإنسانية كلها ، بالإضافة إلى أن هناك صعوبات منهجية خاصة بكل علم على حدة؛ وسنتعرف على بعضها من خلال نموذجين، هما: علم الاجتماع وعلم التاريخ.
I- علم الاجتماع
إن الإشكال في هذا الميدان يتخذ الصبغة التالية: بما أن تحليلنا للمجتمع ينبني على التمثلات هي نفسها ناشئة عن المجتمع ذاته، فكيف نتحرر من هذه التمثلات للوصول إلى موضعة الظاهرة الاجتماعية؟
بداية يجب تحديد طبيعة الظواهر الإنسانية، وسنعتمد على التعريف الذي قدمه دوركايم Durkheim فيقول: " إن الناس يستخدمون كلمة اجتماعي دون كثير من الدقة، فهم يستخدمون هذا اللفظ عادة للدلالة على جميع الظواهر التي توجد في المجتمع لا لسبب إلا لأنها تنطوي بصفة عامة على بعض القواعد الاجتماعية، ولكن يمكننا القول بناء على ذلك أن ما من حادثة إنسانية إلا ويمكن أن نطلق عليها اسم الظاهرة الإجتماعية؛ إن كل فرد منا يأكل ويشرب وينام ويفكر... ولو كانت هذه الأشياء ظواهر اجتماعية لما وجد موضوع خاص بعلم الاجتماع، ولاختلط مجال بحثه بمجال البحث في كل من علم الحياة وعلم النفس"
إن خصائص الظاهرة الاجتماعية التي تتميز بها عن الظاهرة النفسية تتحدد فيما يلي:
أ- ظاهرة جماعية: بمعنى أن يشارك فيها الأغلبية الساحقة من أفراد المجتمع، كما يجب ألا تختفي في لحظة بدون لواحق، إذ يجب أن تتصف بالاستمرار.
ب- ظاهرة تاريخية: بمعنى أن كل ظاهرة اجتماعية هي لحظة من تاريخ الجماعة، وبذلك فإنها تتضمن العادات والتقاليد واللغة..
ج- ظاهرة قسرية إلزامية: إن قوانا أن الظاهرة الاجتماعية عامة وتتكرر في الزمان يعني أنها تتصف بالقسر والإلزام. وقد اعتبر دوركايم هذه الخاصية رئيسية إذ يقول عن الظاهرة الاجتماعية أنها "عبارة عن نماذج من العمل والتفكير والشعور التي تسود مجتمعا ما والتي يجد الفرد أو الأفراد أنفسهم مجبرين على اتباعها في عملهم وتفكيرهم". فبعض أنماط السلوك في الحياة تفرض وإن لم تحترم من طرف الفرد يعاقب. فالقمع الذي تمارسه الظاهرة الاجتماعية على الفرد يعتبر من صفاتها الرئيسية ، والقمع بهذا المعنى يعني التكرار والمحافظة، فهو ينفي التجديد، في حين أن ميزة الإنسان تكمن في الإبداع والخلق. ويمكن القول أن الإكراه يمثل المظهر السكوني للمجتمع، وأن التجديد يمثل المظهر الديناميكي، وأن حدة الصراع بين الإكراه والتجديد أساسية لفهم المجتمع.
د- ظاهرة خارجية: فهي سابقة في الوجود على الأفراد، وعندما نتحدث عن كونها خارجية فهذا يعني أن لها صبغة خاصة؛ وعلى الرغم من أن الفرد يستوعب الظاهرة الاجتماعية فهي خارجية إلى حد الاعتقاد بأنها جزء منه، ويشعر بأنها ظاهرة داخلية أي نفي طابعها القسري. إلا أن هذا لا يغير شيئا من كون الظاهرة الاحتماعية خارجية .ويمكن القول أن المجتمع مجموعة من الأفعال والأفكار التي يجدها الأفراد أمامهموالتي تفرض قليلا أو كثيرا عليهم. والواقع أن المراقبة المجتمعية في جزء كبير منها تكون داخلية؛ والتربية والعلاقات الاجتماعية تخلق رغبة لدى الفرد في المحافظة أي أن الإنسان يُشرط تربويا وسيكلوجيا، فهو لا يشعر بهذ القسر . إن هذا الإشراط السيكلوجي يمكن تحديده في أن الإكراه أصبح لاشعوريا.
ه- ظاهرة وظيفية: وقد عرفت الوظيفة بأنها الدور الذي يقوم به كل نشاط يتكرر في الحياة الاجتماعية؛ دور له أهمية من زاوية مساهمته في وجود واستمرار البنيات الاجتماعية؛ وأن موضوع الوظيفة هو استمرار هيكلة اجتماعية محددة.
من كل ما تقدم، كيف يمكن موضعة ظاهرة اجتماعية لها هذه الخصائص والتي تجعلها أكثر ارتباطا وأكثر تشابكا بذات الإنسان؟ هل يمكن أن نعتمد في هذا الميدان على المناهج التي برهنت عن جدارتها في ميدان العلوم الطبيعية؟ إن ميدان الظواهر الاجتماعية يدخل فيه الإنسان أساساكفاعل، وحينما نتحدث عن الفعل الإنساني نحيل اهتمامنا مباشرة إلى مجال الدوافع التي دفعت إلى هذا الفعل والأهداف المتوخاة من فعله؛ وهكذا نواجه بنفس الإشكال: هل بالإمكان دراسةمكونات الأفعال هذه بنفس الطريقة التي ندرس بها خصائص موضوع فيزيائي؟ هل بإمكاننا موضعتها والتعامل معها كشيء ؟ ألا نكون هنا أمام نظام واق يمتنع جذريا عن كل محاولة للموضعة؟
إن محاولتنا لحل هذا الإشكال يقتضي إمكانيتن :
الأولى أن ندرس الظواهر الاجتماعية كأشياء بعد أن نحد من مجال فاعلية الناس وحصر دوافعهم وأهدافهم وقيمهم في إطار نبعده عن مجال الدرس، ونعمل على إبراز ما يمكن معالجته بواسطة مناهج حققت نجاحا في العلوم الطبيعية.
الثانية أن نستبعد كلية كل ما يمكن أن يرتبط بميدان علوم الطبيعة ومناهجها وأن نقوم بصنع أداة جديدة للتحليل تتلاءم وطبيعة الموضوع أي الإنسان الفاعل دوما وفق دوافع وأهداف وقيم.
لكن، لكل طريقة من هاتين الطريقتين صعوبات.
II – علم التاريخ
يبدو أنه من الناسب تحديد الفرق بين علم التاريخ وفلسفة التاريخ أي أن هناك فرقا بين فيلسوف يتساءل عن المغزى أو الغاية من التاريخ، وبين مؤرخ يدوّن أحداثا بناء على وثائق وتقنيات. كما أن كلمة تاريخ تحمل معنيين : المعنى الأول هو: أحداث وقعت في الماضي؛ والمعنى الثاني هو: طريقة سرد تلك الأحداث.
بناء على هذا كيف يمكن إعادة بناء الحادثة التاريخية؟وإلى أي حد يمكن الحديث عن حقيقة الحادثة التاريخي؟
تتميز الحادثة التاريخية بما يلي:
أ- إنها كلية تتداخل فيها عدة عوامل ، ولا يمكن عزل أي عنصر منها لأن ذاك يؤدي إلى تشويهها.
ب- إنها نتاج لعلاقات بشرية بمعنى أنها نتاج لأسباب وعلل بالمفهوم الإنساني وليس الطبيعي أو الميتافزيقي. تلك العلاقات خاضعة للزمن بمعنى أنها تتميز بالصيرورة ، مما يجعل الحادثة التاريخية ديالكتيكية.
ج- أحداث الماضي تحدد الحاضر والمستقبل، والحاضر يعيد بناء الماضي ليس كصورة ثابتة وجامدة ، وإنما كعلاقة ديالكتيكية.
بناء على طبيعة الحادثة التاريخية يمكن طرح التساؤل التالي : كيف يمكن إعادة بناء الحادثة التاريخة؟ وما هي المواقف التي اتخذت اتجاه علمية التاريخ؟
سنقتصر على موقفين متعارضين من ذاك الإشكال وهما :
أولا- الموقف الوضعي Positivisme
أبرز شخصية مثلت الاتجاه الوضعي في التاريخ هو ليوبولد فون رانكه Léopold Von Rank بحيث صارت كتاباته الموجه الرئيسي لهذا الاتجاه . وتقوم أطروحته على أن ليس من عمل المؤرخ أن يثمن الماضي ولا أن يقدم الدروس والعبر لمعاصريه، وإنما يتحدد عمله فقط في إدراك ما حدث فعلا في الماضي.
لكن، ما هي الفرضيات التي ينبني عليها هذا الموقف؟
- تقوم الفرضية الأولى على التسليم بعدم وجود علاقة تبعية بين الذات العارفة أي المؤرخ وموضوع المعرفة أي التاريخ باعتباره أحداثا واقعية.
- تقوم الفرضية الثانية على وجود علاقة معرفية تتطابق مع النموذج الميكانيكي، أي أن المعرفة انعكاس للواقع، ومن ثمة تعتبر الذات العارفة كمرآة تنعكس عليها المعارف.
- أما الفرضية الثالثة فتنبني على أن المؤرخ باعتباره ذاتا عارفة قادر ليس فحسب على تجاوز كل انفعالاته وأهواءه عندما يقدم الأحداث التاريخية ، ولكنه قادر على التخلص من كل الشروط الاجتماعية في إدراكه لتلك الأحداث.
إن عدم وجود علاقة بين الذات العارفة والموضوع هو الذي يمكن من وجود تاريخ ليس فحسب موضوعيا ولكن أيضا في شكل معطى جاهز باعتباره بنية محددة قابلة للمعنى. ويكفي المؤرخ أن يجمع عددا كبيرا من الأحداث والوثائق حتى يتولد عنها علم التاريخ. أما التفكير النظري و الفلسفي على الخصوص فهو غير مجد بل مضر لأنه يدخل في العلم الوضعي عنصرا غريبا وهو "التأمل".
ثانيا- الموقف النسبوي أو نزعة الحاضر Présentisme
إن الأب الروحي لنزعة الحاضر هو الفيلسوف الإيطالي كروتشي B.Croce . وتتأسس هذه النزعة على أطروحة مفادها أن التاريخ هو إسقاط الفكر المعاصر على الماضي.وأي تاريخ هو تاريخ راهن. أما حقيقة المعرفة التاريخية فإنها ترتبط وجودا وعدما بالحاجة التي دفعت إلى تلك المعرفة. ووضع علاقة بين المعرقة التاريخية وخقيقتها مع الحاجة والمنفعة، جعلت نزعة الحاضر هذه تتقارب مع المذهب البرجماتي خصوصا الأمريكي، وهذا ما عبر عنه بوضوخ كارل بيكر.
في سنة 1932 كتب المؤرخ الأمريكي كارل بيكر C.Becker في " مجلة التاريخ الأمريكي" يقول: " من الواضح أن التاريخ الحي، سلسلة الأحداث النموذجية التي تتمظهر في عباراتنا التأكيدية والتي نتبّثها في ذاكرتنا لا يمكن أن تكون هي نفسها واحدة بالنسبة لجميع الأفراد أو لمختلف الأجيال في عصر ما ؛ ويرجع سبب هذه الحالة إلى أن التاريخ وثيق الصلة بكل ما نفعله أو ننوي فعله. وفي هذا المعنى لا يمكن للتاريخ أن يختزل في متواليات إحصائية قابلة للتحقق أو أن يصاغ صياغة رياضية مقبولة عند الجميع، فهو بالأحرى إبداع المخيلة، وملكية خاصة يفصّلها كل واحد طبقا لتجربته الشخصية، ويكيفها حسب حاجاته العملية أو العاطفية ، ويزخرفها طبقا لذوقه الجمالي" ثم يضيف "الماضي شاشة يعرض عليها كل جيل نظرته إلى المستقبل، وطالما الأمل يحيا في قلوب الناس إلا وتعاقبت "التواريخ الجديدة" ".
ما يمكن استنتاجه من هذا الموقف الذي يتعارض مع الوضعية تعارضا مطلقا هو أن التأويل الجذري للتاريخ كما عرضه كروتشي ومن سار على نهجه يقود إلى النتائج التالية: -لا يوجد تاريخ واحد وإنما تواريخ متعددة تعدد العقول التي تبدعها، وبالتالي ينبغي التسليم ليس فحسب بأن كل عصر يملك صورة خاصة بتاريخه مثلما هو الأمر بالنسبة لكل أمة أو طبقة اجتماعية، ولكن أيضا لكل مؤرخ بل حتى لكل فرد. – كما وأن المعيار الوحيد للحكم على هذه التواريخ المتعددة وبالتالي المختلفة هو مقدار ما تلبيه من الحاجات والمنافع، ولا يمكن تبرير هذا الموقف إلا إذا سلمنا بأن" الفرد هو مقياس كل شيء".
- ويرى بيكر أن التاريخ لايمكن أبدا أن يكون علما، مادام أنه لايمكن صياغته في قوانين عامة يمكن التعبير عنها رياضيا؛ علاوة على أن القانون العلمي يتصف بالشمولية وإمكانية التنبؤ، بينما الحدث التاريخي هو حدث فريد لا يتكرر ، وبما أن القانون لا يمكن أن يقوم على ما هو جزءي.؛ فيبقى التاريخ إذن فنا، والحدث التاريخي هو مناسبة للمؤرخ كي يعيد بناءه بطريقة ذاتية تخضع للمنفعة، والحاضر هو الذي يحدد هذا البناء.
- النتيجة الخطيرة لهذا الموقف هو أن على المؤرخ أن يقبل بتأويلين متناقضين لحدث تاريخي واحد مادام أنهما يلبيان حاجاته ومنافعه. ثم إن علم التاريخ لا يتوفر على معيار لتمييز الخطأ من الصواب، الصادق من الكاذب من الأحداث. والخلاصة هي أن الذاتية الجذرية والنسبوية التي تتصف بهما نزعة الحاضر تنزع عن التاريخ صفة العلمية.
لا يمكن الأخذ بأحد هدين الموقفين المتطرفين من التاريخ، لسبب بسيط وهو عدم وجود موضوعية مطلقة ولا ذاتية جذرية.لأن العلاقة بين الذات والموضوع علاقة جدلية لمعرفة غاية التاريخ وتحديد بناء المستقبل انطلاقا من الماضي والحاضر، ثم لتجنب التاريخ السردي إلى تاريخ تحليلي يسجل الأحداث ويؤول ويعلل مستندا على الحجج والوثائق، وفي هذه الصورة الجدلية تكمن علمية التاريخ كمعرفة منظمة لأحداث الماضي.
III – مفهوم العلمية
لقد أتينا في عرضنا على ذكر مجموعة من العوائق حالت دون قيام العلوم الإنسانية ، ويرجع سبب ذلك إلى تصور نموذج العلمية في الفيزياء ( المنهج التجريبي، تحقيق الموضوعية، الإيمان بالحتمية) . يتشبث بهذه الصورة الاتجاه الوضعي ، لكنه تجاهل خصوصية الظاهرة الإنسانية التي تختلف كليا عن الطاهرة الطبيعية. تلك الظاهرة التي يتدخل فيها الإنسان كفاعل؛ وعندما نتحدث عن الفعل أو الفاعلية فإننا نعني بذلك الدوافع والأهداف والقيم؛ وهذا ما دفع إلى قيام المدرسة الألمانية بزعامة ديلتاي Dilthey الذي ميز بين نوعين من العلوم: العلوم الطبيعية وموضوعها الظاهرة الطبيعية التي تعتمد على المنهج التفسيري، وعلوم الروح أي العلوم الإنسانية التي تعتمد على التفهم، ويعني ترابط الحالات الشعورية ونتائجها . وقد نتج عن هذا التمييز صراع بين المدرسة التفهمية والمدرسة الوضعية حول علمية العلوم الإنسانية، هل هي مرتبطة بنموذج الفيزياء أن أنه يمكن البحث عن صورة أخرى للعلمية؟
يقول ج.لادريير J.Ladriere : يظهر أن المفهوم الوحيد المنسجم والدقيق للعلمية والذي يمكننا أخذه كمقياس هو ذاك الذي انبثق خلال مسيرة تاريخية طويلة عن ممارسة العلوم الطبيعية. ومن هنا تكون الوسيلة الوحيدة لبناء علم حقيقي للوقائع الاجتماعية هو تبني طريقة التحليل المنظم، وبعبارة أخرى القيام بموضعة تامة للظواهر الاجتماعية.
إذا كان من الممكن فعلا الدفاع عن وجهة النظر هذه ، فإنه يترتب أن الطريقة التفهمية لا يمكنها أن تكون علمية. وهكذا سنواجه اقتراحا يهدف إلى إعطاء معرفة الواقع الاجتماعي صبغة علمية حقة ، لكن سيكون ثمن ذلك إضعافا كبيرا للموضوع ، ومن جهة أخرى سيكون علينا مواجهة اقتراح يدعي الوصول إلى هذا الموضوع في نواته الأكثر خصوصية، لكن ثمن ذلك هو التخلي عن كل ما له علاقة بالعلم.
الحقيقة العلمية لا تكون منشرطة بهذا الشكل، لأنه إذا أمكن لنا أن نستخلص مفهوما للعلمية عبر التاريخ وهو الذي يتمثل في موضعة الظاهرة، وعلى هذا تكون الطريقة التفهمية لاعلمية. لكن ، ما هي صورة العلمية هذه التي انبثقت من الفيزياء؟ إن العلمية ليست نموذجا تابثا قبليا، وإنما هي الصورة التي تكونت عن الفيزياء خلال الممارسة العلمية عبر التاريخ. وعلى هذا يمكن للعلوم الإنسانية أن تسير على نفس الطريقة ، بمعنى أن تبني موضوعها ومناهجها وأن تعطي صورة أخرى للعلمية غير العلمية الفيزيائية.
أليس هذا ما حصل فعلا مع التحليل النفسي وعلم الاجتماع والأنثربولوجيا والتاريخ مثلا؟