العقلانية الكلاسيكية والعقلانية المعاصرة
* الإشكال:
هل للعقل بنية مغلقة ثابتة بحيث يعتبر جوهرا يشتغل بمبادئ قبلية لا تتغير، أم أنه يملك بنية منفتحة ونامية متطورة بحيث يكون فعالية تجدد مبادئها وتوسع معارفها باستمرار؟
مقاربة الإشكال:
1. تصور العقلانية الكلاسيكية:
إذا كانت الفلسفات المندرجة تحت العقلانية الكلاسيكية (كما هو الشأن بالنسبة لفلسفات كل من أرسطو وديكارت وكانط) تطرح تصورات تختلف من فيلسوف لآخر، فإنها مع ذلك تشترك في اعتبار العقل جوهرا ثابتا منغلقا على ذاته، إلى حد أنه لا يقبل التسليم بما يخرج عن نطاق ما هو عقلي وما هو يقيني على مستوى الفكر والواقع. وإذا كان العقل ينتج معرفة ويضفي المعقولية على الأشياء، فإن ما يسمح له بذلك، حسب العقلانيين الكلاسيكيين، هو جملة من المبادئ التي تعد ثابتة ومطلقة وضرورية. وهذه المبادئ هي:
*مبدأ الهوية: وهو يقضي بأن الشيء يكون هو هو دائما، أي متطابقا مع ذاته، محققا لوحدته. فالشمس هي شمس وليست قمرا، والحصان هو حصان وليس غزالا.
*مبدأ عدم التناقض: وهو ينص على أن القضية لا يمكن أن تكون هي وليست هي في نفس الوقت، فالنقيضان لا يجتمعان، إذ أنه إذا صدق أحدهما كان الآخر كاذبا بالضرورة. فمثلا إذا صدقنا القضية القائلة بأن"الحجر مادة"، استحال علينا أن نصدق في الآن نفسه القضية القائلة بأن"الحجر ليس مادة". وإذا قبلنا بذلك، فمعناه أننا ننسب إلى موضوع واحد صفتين متناقضتين.
*مبدأ الثالث المرفوع: وهو يترتب عن المبدأ السابق، فإذا كانت الصفتان المتناقضتان لا تجتمعان في موضوع واحد، فلابد أن يتصف بواحدة منهما. فالحجر، في المثال السابق، إما أنه مادة، وإما أنه ليس مادة. فإن أثبتنا له إحدى هاتين الصفتين انتفت عنه الأخرى بالضرورة، فلا وجود لصفة وسطى بين المادة واللامادة.
*مبدأ السببية: يؤكد هذا المبدأ على أن لكل شيء سببا، فخلف كل ظاهرة تحدث سبب فاعل، والحوادث تتوالى في سلسلة يرتبط فيها اللاحق بالسابق. ويترتب عن هذا المبدأ مبدأ آخر هو مبدأ الحتمية الذي يقضي بأن نفس الشروط تؤدي إلى نفس النتائج. فإذا ثبت لي أن"ص" هي علة"ق"، فمعنى ذلك أن وجود"ص" ينتج عنه حتميا وجود"ق". وبالتالي فإن أي حدث لا يمكن أن يحدث إلا في إطار شروط معينة، فإذا تكررت هذه الشروط تكرر هذا الحدث.
شكلت هذه المبادىء الأساس الذي يحدد منطق العقل في علاقته بذاته وبالأشياء والموضوعات. وبذلك تم صرف النظر عن التناقض والتحول والاختلاف على صعيد الفكر والواقع، فلم يعد ثمة مجال لما هو متميز أو استثنائي، ولما هو متحرك وغير حتمي.
2. تصور العقلانية المعاصرة (المفتوحة):
على النقيض من تصور العقلانية الكلاسيكية، يؤكد غاستون باشلار على تميز العقل ببنية منفتحة متغيرة. إن العقل ليس جوهرا، فهو طاقة فكرية أو فعالية تفكر وتنتج المعرفة، وهو يشهد نموا وتغيرا بفعل عملية التفكير وإنتاج المعرفة، مما يشير إلى وجود تفاعل بين العقل وبين المعرفة التي تتولد عنه. ومن ثم لم يعد من الممكن القول بأن العقل وعاء يشتمل على مضامين وأفكار أولية، ويتشكل من مقولات قبلية سابقة على الواقع والتجربة.
إن هذا المفهوم الجديد للعقل نتج عن الثورة العلمية المعاصرة، ما بين ق 19 وبداية ق 20 ، التي أنجزت مجموعة من الاكتشافات التي أدت إلى إعادة النظر في ما كان سائدا من مفاهيم وتصورات ومناهج. ففي حقل الرياضيات تحطمت فكرة البداهة التي تقوم على الإقرار بوجود أفكار واضحة بذاتها، واستبدلت بها الأوليات التي ليست أكثر من فرضيات يختارها الرياضي من بين فرضيات كثيرة ممكنة، ويستنتج منها قضايا رياضية يشترط فيها ألا تكون مناقضة لهذه الفرضيات، حفاظا على الانسجام الداخلي للنسق الرياضي. هكذا انفتح العقل في الرياضيات المعاصرة على جملة من النقائض التي لم تكن مقبولة في الرياضيات الكلاسيكية(كإعادة النظر في مسلمة التوازي عند أوقليدس، وإثبات أن الجزء يمكن أن يكون مساويا للكل أو أكبر منه). وفي حقل الفيزياء المعاصرة تمت أيضا مراجعة مجموعة من المفاهيم والمبادئ التي كان العقل ينظم بها التجربة كالزمان والمكان والملاحظة والموضوعية والحتمية. فإذا كانت الفيزياء الكلاسيكية، مثلا، تنظر إلى الطبيعة على أساس أنها تخضع لحتمية دقيقة تجعل الظواهر ترتبط بعلاقات ثابتة، وتسمح بإمكانية التنبؤ بما سيحدث، فإن الميكروفيزياء أثبتت أن عالم الذرة بجزيئاتها يتعارض مع القول بمبدأ الحتمية. فالعلاقات داخل هذا العالم تقوم على الاحتمال، إذ يصعب ضبط موقع الإلكترون وسرعته بدقة، مما يؤدي إلى القول بمبدأ اللاحتمية.
* خلاصة:
تأسيسا على ماتقدم، نستطيع التمييز بين تصورين متناقضين حول بنية العقل:
- تصور العقلانية الكلاسيكية الذي يعتبر العقل جوهرا منغلقا على ذاته، يفكر وينتج المعرفة من خلال مبادئ قبلية ثابتة ومطلقة.
- تصور العقلانية المعاصرة الذي يرى أن العقل فعالية تفكر وتنتج المعرفة انطلاقا من وضع فرضيات وبارتباط مع الواقع والموضوعات التي تدرسها، وهي تقبل التغير والتطور بتأثير من المعرفة التي تنتجها.