لقد أفضت العلوم المعاصرة في القرن العشرين إلى اكتشاف ظواهر وعلاقات ميكروسكوبية يصعب تحديدها كأشياء لها خصائصها المميزة الثابتة نسبيا، ويتعذر تعيينها في الزمان و المكان، وظهرت نظريات جديدة ( مثل نظرية النسبية لأنشتاين) لا تعتمد التجربة الإمبريقية بمفهومها الكلاسيكي، ولكنها تتوصـــل إلى نتائجها عن طريق المعادلات والدوال الرياضية المجردة، فلم تعد التجربة مرجعا لاختبار صدق الفرضيات أو كذبها، ولا منبعا للنظريات، لأن النظريات أصبحت عبارة عن إنشاءات عقلية حرة.
إشكال المحور: ما طبيعة العقلانية العلمية؟ هل هي عقلانية اختبارية أم عقلانية رياضية أم عقلانية جدلية؟
1- العقلانية العلمية عقلانية تجريبية ومعقولة:
- موقف هانز رايشنباخ (1891-1953):
إن المعرفة العلمية يتم التوصل إليها باستخدام مناهج معقولة لأنها تقتضي استخدام العقل مطبقا على مادة ملاحظة. غير أنها ليست عقلانية، إذ أن هذه الصفة لا تنطبق على المنهج العلمي، و إنما على المنهج الفلسفي الذي يتخذ من العقل مصدرا للمعرفة التركيبية المتعلقة بالعلم، ولا يشترط ملاحظة لتحقيق هذه المعرفة. إن العالم الرياضي حين يدرك مدى نجاح الاستنباط المنطقي في مجال ما لا يحتاج إلى التجربة...تكون النتيجة نظرية للمعرفة تحل فيها أفعال الاستبصار العقلي محل الإدراك الحسي، ويُعتقد فيها أن للعقل قوة خاصة به، يكتشف بواسطتها القوانين العامة للعالم الفزيائي. وعندما يتخلى الفيلسوف عن الملاحظة التجريبية بوصفها مصدرا للحقيقة، لا تعود بينه وبين النزعة الصوفية إلا خطوة قصيرة. فإذا كان في استطاعة العقل أن يخلق المعرفة، فإن بقية النواتج التي يخلقها الذهن البشري يمكن أن تُعد بدورها جديرة بأن تُسمَّى معرفة. ومن هذا المفهوم ينشأ مزيج غريب من النزعة الصوفية والنزعة الرياضية.
2- العقلانية العلمية إبداع حر للعقل:
- موقف ألبيرت إنشتاين (1879-1955):
يؤكد ألبيرت إينشتاين أن الإبداع العقلي هو الأساس النظري للفيزياء المعاصرة. فالنظرية هي نسق تتكامل فيه المفاهيم و المبادئ الصادرة عن العقل، و لا يكون للتجربة إلا دور ثانوي يكمن في مطابقة القضايا الناتجة عن النظرية، وتوجيه العالم إلى اختيار بعض المفاهيم الرياضية التي يوظفها، في حين أن العقل هو الذي يمنح النسق بنيته، على نحو رياضي خالص. إذ يقول اينشتاين :" إن المبدأ الخلاق في العلم لا يوجد في التجربة بل في العقل الرياضي".
3- العقلانية العلمية عقلانية مطبقة هي نتاج حوار دائم بين العقل والتجربة.
- موقف غاستون باشلار (1884-1962):
ينتقد باشلار كل من النزعتين التجريبية و العقلانية ، ويرفض اعتبار الواقع المصدر الوحيد لبناء النظرية العلمية ، كما يرفض اعتبار العقل مكتفيا بذاته في بناء هذه النظرية . ويرى أنه لا يمكن تأسيس العلوم الفيزيائية دون الدخول في حوار فلسفي بين العالم العقلاني و العالم التجريبي ينبني على يقين مزدوج :
أولا : يقين بوجود الواقع في قبضة ما هو عقلي ، فيكون بذلك مستحقا لاسم الواقع العلمي
ثانيا : يقين بأن الحجج العقلية المرتبطة بالتجربة هي من صميم لحظات هذه التجربة
إن هذا اليقين المزدوج لا يمكن أن يتحقق إلا في إطار فلسفة لها نشاطان يُمارسان عبر حوار دقيق و وثيق بين العقل و الواقع بحيث يصبح من المطلوب أن يتموقع العالِم في مركز يكون فيه العقل العارف مشروطا بموضوع معرفته ، وبحيث تكون فيه التجربة تتحدد بشكل أدق .
خلاصة تركيبية:
إن أساس العقلانية العلمية يتراوح بين العقل والتجربة أو بين الحوار بينهما لأنه لا وجود لنظرية علمية عقلية خالصة، كما أنه لا وجود لتجربة علمية مستقلة عن العقل .و من ثمة فإن انغلاق النظرية على ذاتها هو فناؤها، كما أن انغلاق العقل على ذاته هو عزلته ونهايته. ويرجع التباين الحاصل في طبيعة العقلانية العلمية إلى التطورات التي عرفتها صيرورة العلم.
ولقد ساهمت التحولات العميقة التي عرفها العلم في بداية القرن 20 (ظهور هندسات لا أقلييدية، نظرية الكوانتم، نظرية النسبية...) في اتخاذ العلاقة بين النظرية والتجربة لأبعاد جديدة، إذ لم يعد العلم يتحرك في مستوى التجربة في معناها الكلاسيكي (التجربة المختبرية) وإنما تجاوزها إلى أنواع جديدة من التجارب كالتجربة الخيالية والتجربة الذهنية والتجربة الأكسيومية...
نخلص إذن إلى أن العقلانية العلمية، وكما يؤكد ذلك روبير بلانشي، ليست عقلانية دوغمائية ومنغلقة على ذاتها، وإنما هي عقلانية تجريبية ومنفتحة على هوامش خارجها. فبالرغم من استنادها على العقل والفكر فهي مجبرة على استشارة التجربة تجنبا للوقوع في التجريد والتناقض والمثالية. كما إن العقلانية العلمية المعاصرة لا تتعامل مع العقل كإطار قبلي مطلق وثابت، وإنما كإطار يمكن أن يعدل ويغير كلما لوحظ بأن ما يقوم عليه لا يتماشى مع شكل الواقع وتركيبته.