إن طرح إشكال حرية الشخص يفرض علينا إجراء مقاربة فلسفية جدلية تدافع عن حرية الشخص وقدرته على اختيار ما يريد بين ممكنات متعددة، رغم ما يخضع له في الحياة من ضغوطات وإكراهات متعددة. فكيف تكون حرية الشخص ممكنة وهو يحيا وسط شبكة من العلاقات والانتماءات التي هي بمثابة إكراهات وضغوطات نفسية واجتماعية وغيرها؟ وكيف يمكن للحرية أن تساهم في بناء شخصيتنا؟
ينطلق النص من فكرة صادرة عن فلسفة تفيد أن شخصية الإنسان تبدأ بحرية اختياره لأفعال تساعده في بناء ذاته، فهو ليس بطبيعته خيرا وليس بطبيعته شريرا إلا أنه قادر على اتخاذ أحد هذه المميزات، فهو حر في اختيار طريقة حياته و معتقداته وقراءاته وكل حاجة متعلقة به شخصيا من غير تدخل من أحد سواء كان سلطة أو مؤسسة أو أي شيء آخر. فمثلا اذا رأيت أحدا يدخن السجائر سواء كان من البنات أم من الرجال وذكرته بأضرارها، قال لك هذه حرية شخصية، و إذا رأيت فتاة تمشي وأجزاء من جسدها مكشوفة ونصتحها، قالت لك هذه حرية شخصية. فما معنى الحرية؟ وما هي حدودها ؟
الحرية هي أن تفعل ما أنت مقتنع به شرط أن لا يشكل هذا الفعل عائقا أمام سبيل راحة الآخرين، والحرية هي التي بفضلها يمكن للإنسان أن يرسم لنفسه الكيفية التي بواسطتها تكون شخصيته، وأن أهم حدود الحرية هي احترام حقوق الإنسان الآخر، فمثلا منع التدخين في أماكن كثيرة لأنه يضر بالآخرين….
وهكذا وبما أن الإنسان اجتماعي بطبعه، فمعنى هذا أن الشخص يعيش داخل مجتمع بما يفرض عليه من إكراهات وشروط وقيم وقوانين وضوابط تقيد حريته، وذلك انطلاقا من الوظائف التي تقوم بها مختلف المؤسسات الاجتماعية الثقافية. وإذا رجعنا إلى المثال السابق (مثال مدخن السجائر ) لا يمكنه أن يدخن داخل القسم نظرا لوجوده داخل مؤسسة تعليمية يحكمها مؤطر فهو خاضع لضغوطاته.
بما أن للكائن البشري بنية سيكوفزيولوجية وبما أنه كائن سوسيوثقافي فلا يسعه الانفلات من القوانين الفزيولوجية والمحددات النفسية والإكراهات السوسيوثقافية،إن تجاهل هذه الشروط هي ما يجعل كل إنسان يعتقد أنه السيد في مملكة نفسه وأنه اختار بمحض إرادته بعض ملامح شخصيته.
ونحن نجد مواقف فسلفية كثيرة قامت على فكرة الحتمية الكونية الشاملة لم تر في الشعور بالحرية سوى وهما ناتجا عن جهل سلسلة العلل والأسباب، وكما يقول اسبينوزا فإن الناس يعون حقا رغباتهم لكنهم يجهلون العلل الخفية التي تدفعهم إلى الرغبة في هذا الموضوع أو ذلك. فالتحليل النفسي مثلا يدعم رأي اسبينوزا حيث يرى أن البناء النفسي للشخصية ما هو إلا نتيجة حتمية لخبرات مراحل الطفولة، فمثلا عندما يولد الطفل فهو يأتي للدنيا نقيا تماما وكل ملفات عقله نقية ولا يوجد عنده أي إدراك لأي معنى ولا لأية لغة ولا يدري ما يجري حوله، ثم يبدأ الوالدان في التكلم معه بتعبيرات الوجه وحركات الجسم وتكرارها حتى يبدأ الطفل في النطق، ويمر الوقت ويكبر الطفل ويتكون عنده إدراك بسيط لمعنى ما يحدث حوله، وهذا الإدراك يعطيه معنى لما فهمه ولغة معينة تمثل هذا المعنى. وهنا يبدأ العقل في فتح ملفات ذهنية لهذا المعنى وكلما أدرك الطفل معنى آخر للغة يتكون عنده ملف خاص بهذا المعنى، وكل ملف خاص بإدراك معنى محدد، فكلما قابل الطفل تجربة من نفس المعنى يخزنها العقل في نفس الملف الخاص بها. فمثلا لو كان عندك ملف للحب، فكلما وجد الطفل أي شيء فيه معنى الحب يخزنه العقل في ملف الحب. كما أن الكثير من الأنشطة الإنسانية تحركها دوافع الهو اللاشعورية ذات الطبيعة الجنسية أو العدوانية.
لكن على خلاف ما تقدم فإن العديد من الفلاسفة يرون أن الشخص كائن حر. كما الشأن بالنسبة للفيلسوف الفرنسي مونيي الذي ميز بين الشخص والشخصية واعتبر هذه الأخيرة هي التي تخضع للضرورات النفسية والاجتماعية والتاريخية وغيرها وليس الشخص، لأنه كائن حر يختار أفعاله ويقرر مصيره كما يشاء هو وليس غيره الذي يقوم مقامه في ذلك فردا كان أو جماعة. غير أن حريته محدودة بشرط علاقته واندماجه في المجتمع لكن دون أن يؤدي هذا الاندماج إلى القضاء على خصوصيته. لذلك يجب على المجتمع توفير الشروط والظروف الملائمة للحفاظ على حرية الشخص وتطوير ميولاته وترسيخ ثقافة الاختلاف بين الناس. فهل يتفق سارتر مع مونيي فيما ذهب إليه ؟ وهل حرية الشخص في نظره نسبية أم مطلقة؟
يرى سارتر أن الشخص حر في اختيار مصيره ويتحمل مسؤولية اختياراته، فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي يسبق وجوده ماهيته ويشكل ذاته وماهيته ويحددها في ضوء ما يختار لنفسه كمشروع في حدود إمكاناته،لأنه يكون في البداية حياته عبارة عن لا شيء، يوجد في هذا الكون وبعد ذلك يفكر ويختار ما سيكون عليه مستقبلا وما سيكون لنفسه وحياته ومصيره، إذ للإنسان القدرة على موضعة نفسه في العالم كمشروع يختار لنفسه ما يشاء بحريته كاملة من بين العديد من الخيرات المستقبلية ويتحمل مسؤولية اختياره. ومن هنا فليست للإنسان طبيعة ثابتة ما دام هو الذي يختار حياته ومصيره بعد وجوده.
وعموما فالشخص من حيث المبدأ ذات حرة غير أن حريته نسبية، فعيشه في مجتمع معين يعرضه للاستلاب والضرورة التي تجعله سجينا خاضعا لمنظومة من القيم والقوانين والعادات والعلاقات المتنوعة التي تحد من حريته. غير أن الشخص وإن كان يخضع لحتميات متعددة فإنه يحاول باستمرار تجاوزها والتعالي عليها والتخلص منها في نفس الوقت.