الأفكار الفلسفية في القرن العشرين : كرونولوجيا أفكار القرن
كريستيان ديكامب
ترجمة: حسن احجيج
إذا كان القرن العشرون قد عرف تحولات عديدة في الميادين العلمية، فإن الحقل الفلسفي توسع وتنوع بدوره بشكل كبير. ورسخ الخطاب الفلسفي نفسه كهيئة نقدية وضابطة في عالم أصبحت التقنية تتحكم فيه أكثر فأكثر.
هزت الحربان العالميتان الفلسفات في القرن العشرين هزا جوهريا. إذ أتلفت حرب 1914 النزعة الأممية ونزعة التقدم العلمي اللتين كانتا تغذيان فترة ما قبل الحربين، على الرغم من إعادة النظر في الفيزياء على يد اينشتاين، أو في الذات بفضل اكتشاف فرويد للاشعور. ومع ذلك، ظل هوسيرل إلى سنة 1918 يتصور الفيلسوف وكأنه "موظف البشرية" رغم تشاؤم فرويد الذي أرعبته عصابات الحرب واعتبر الحضارة "ظاهرة متواترة".
ومن جهتهما، راهنت النزعة الوضعية والمطمح العلاجي لفتجنشتاين على الأمل. فبعد (الفاجعة) وكارثة هيروشيما، ستصطدم الفلسفة بصعوبة مؤلمة صاغها أدورنو على النحو التالي: "كيف يتصرف المرء بعد أوشفيتس ليجعل من الفلسفة شيئا مخالفا للموسيقى المصاحبة التي كان أفراد الشرطة النازية يحبون أن يكتموا بها صرخات ضحاياهم؟". لقد كان ذلك رهانا حاسما مادامت الفلسفة والعلم الكلاسيكي لم يعرفا ولم يستطيعا أن يعرفا كيف يتجنبان الأسوأ! وأصبح الأمر يتعلق منذئذ، كما وضح ذلك الفيلسوف الألماني، بأن "يفكر الإنسان ويتصرف كما لو أن أوشفيتس لن تتكرر أبدا".
وبعيدا عن سذاجات النزعة العلمية، فإن الفكر الراهن يجعل العلوم تتقاطع بكل تعقيداتها. وبغض النظر عن الحظوة التي تتمتع بها العلوم الإنسانية، فإن أهم تيارين فكريين في الفلسفة المعاصرة، وهما الفلسفة القارية (ذات الأغلبية الأوروبية) والفلسفة التحليلية (ذات الأغلبية الأنجلوسكسونية)، شرعا في إقامة علاقات تبادل. نعرف اليوم أنه لا توجد "وقائع في ذاتها"، وأن كل تأويل يستخدم مفترضات راسخة بقدر ما هي مجهولة. كان الوضعيون يقولون: "دعوا الوقائع تتحدث"؛ لكن كان بوانكاري يجيبهم: المأساة هي أن "الوقائع لا تتحدث". ونعرف أيضا أن الفلسفة المرتبطة بالقانون أو الأدب أو الجماليات أو العلوم تخلت عن الصياغات الظافرة المتمثلة في العقل أو التاريخ المطلق أو الذات الملكية؛ وبالمقابل، لم تتخل في شيء عن مهمة التعقل والتوضيح. فالفلسفة ليست مجرد فلسفة "مهنية" ولا فلسفة عفوية كليا، إنها تلاحق مطلب الإخبار الذي يعمل على إتقان أسلوبه (في التقليد التحليلي) وكذا على استثمار علاقته، المستأنفة باستمرار، مع الأسئلة الكبرى التي خلفها عظماء تاريخ الفلسفة.
كان القرن العشرون الناشئ غارقا في غبطة التقنية. ومع ذلك، كان برغسون يحذر الآلات. فضدا على التكرار الآلي، يراهن على "ضربات المسبار لمدة خالصة" القادرة وحدها على خفضنا إلى "الكائن الهائج". ومن جهتها، تجتاز الرياضيات -التي تتوجه إلى أن تصبح مفردة- أزمات متنوعة. إذ أصبح معروفا منذ زمان أنه لا توجد هندسة أصدق من أخرى.
إن نظرية النسبية (1905) تكسر صورة واقع مستمر، واقع مضبوط بشكل طبيعي. لقد أسيئت تسمية النسبية، ذلك أنها -كباقي النماذج العلمية- ترتكز على نظرية الثوابت (سرعة الضوء في الفراغ)؛ وفي هذه الحالة، فإنها تهدم المعالم الغاليلية وميكانيكا نيوتن وتدعو كل فرد إلى أن يتخلص من "بداهة الواقع".
كان هوسيرل مفتونا بالأمانة العلمية، وكان يطمح إلى بناء الظاهراتية كمنهج صارم وعلمي. فبعد أن تأمل أساس الرياضيات، توصل إلى أنه لا يمكن إلغاء كل استعانة بالحدس. لقد كان هوسيرل الصارم يطمح إلى خلق وسيلة لوصف الظواهر بدقة كاملة. ولفهم حقيقة المظاهر، يستحسن إذن تعليق الشروط الإمبريقية، إذ يجب لإدراك "الأحمر" تعليق "هذا الأحمر". ذلك أن وعينا هو دوما "وعي بـ" شيء ما. فالوعي منطلق نحو العالم. فأنا لا أرى مجرد بشر وإنما "أصدقاء" أو "أعداء"، "مرؤوسين" أو "رؤساء"، "أغراب" أو "أقارب". إن ذهني، من هذه الزاوية، هو حقل دائم لتجاربي. إن الإمساك الصارم بالوعي -بعيدا عن المثاليات الثقافية أو العلمية-، يعني أيضا الغوص في "العالم المعيش"، عالم لقاءاتي مع الآخرين، عالم تذاوتنا. وبما أن هوسيرل قد عاصر تصاعد الهمجية النازية، فقد تمسك بفكرة أن مهمة الفيلسوف هو أن يجعل من نفسه "راعي البشرية".
كان هايدغر في فترة ما تلميذا لهوسيرل. ومع ذلك، قطع صلته بأستاذه ليعكف منذ كتاب الوجود والزمن على موضوع نسيان الكينونة، وهو نسيان مقترف منذ ما قبل السوقراطيين. ذلك أن الحساب والتحكم في عالم التقنية لم يفعلا غير التخفيف من حدة هذا النسيان. فالزيف يوجد في كل مكان. وحتى في قلب الذاتيات، نجد صيغة "المرء يموت" تُقَنِّعُ صيغة "أنا أموت". إن الثرثرات تخفي قلق الموت باستبداله بالخوف المبتذل من الوفاة. والحياة اليومية لا تفتأ تدفعنا إلى الانضمام إلى ما هو متفق عليه، إلى المتواضع، إلى الألف طريقة التي يمكن للمرء بها أن يكون مزيفا. إن الابتذال التقني-العلمي يربطنا بالأشياء. والتفلسف بالنسبة لهايدجر، يعني -في علاقته بالكينونة التي يجعلها لا تنصت للتاريخ ولا للعلم السائد في عصرها- فتح الأشياء وتجديد فعل الإنصات الذي يقوم بتسريح كل علم من مهامه.
لكن الوضعيين الجدد المنتمين لدائرة فيينا يدافعون عن وجهة نظر مغايرة. إن التحليلات اللغوية التي قام بها فريجه وراسل وكارناب، والتي اتخذت لها كنموذج العلم التجريبي، تريد أن تستبدل التأملات الفلسفية بنوع من الصرامة يكون بمقدورها إقصاء جميع "العبارات الخالية من المعنى"، فقد شن كارناب هجوما على هايدغر في كتابه العلم والميتافيزيقا، معتبرا القضية "العدمُ يعدَمُ" قضية كاذبة وخالية من المعنى كعبارة "قيصر عدد أولي".
قامت دائرة فيينا بإلحاق فتجنشتاين بها إلحاق تعسفيا. ويستحق هذا الفيلسوف -باعتباره واحدا من أعظم مفكري القرن العشرين- وقفة خاصة به، نظرا لأنه رجل قضية: العلاقات القائمة بين اللغة والعالم. يرى فتجنشتاين في كتابه رسالة منطقية فلسفية -الكتاب الوحيد الذي نشر في حياته- أن هناك تماثلا بين اللغة والعالم. فكما أن التدوين الموسيقي يصور الموسيقى، فإن الكلمات تصور العالم. إن اللغة نوع من الكتابة الهيروغليفية. والصور ليست نسخة للوقائع؛ إنها "وقائع في ذاتها"، إذا تناولناها من زاوية أكثر تجريبية. وبما أننا نعبد الأيقونات بنوع من العفوية، فإننا نعتقد في الصور والكلمات. ويتعين على الفيلسوف أن يكسر هذه السذاجة الغريزية.
وبعبارة أخرى، "لا يمكن لنا أن نقول كل شيء"؛ ويستحسن أحيانا أن "تُظْهِر". ولما كان فتجنشتاين حذرا من الأخلاقيين، فإنه يعتقد أن تجسيد سلوك أخلاقي أفضل من صياغته في كلمات. إن هذا الفيلسوف النمساوي المغترب في كامبريدج يهدف إلى التوضيح المنطقي للفكر. ففي الجزء الثاني من كتابه، يتوجه فتجنشتاين نحو الألعاب اللغوية التي تكون عوالمنا. لنفكر في ما نقوم به عندما "نصوغ فرضية، أو نبتكر قصة، أو نحكي نكتة، أو نعلن أحدا، أو نصلي". إن كل واحد من هذه الأنشطة يشكل عالما بمعنى من المعاني. ومن هذا المنظور، تعد اللغة "علبة أدوات". إن فلسفة فتجنشتاين، الرزينة رغم قسوتها، تدعونا للتخلص من الرغبة في "المرور خلف الأشياء".
وفي الأربعينات، سيعيد التقليد الأوربي ربط علاقته بالتيار الظاهراتي. إن سارتر، الذي يرفض كل طبيعة بشرية، يعتقد أن ما يميز الإنسان هو أنه لا طبيعة له. فضلا عن ذلك، فإن الذات قائمة وعارضة دوما. ليست عبارة "أنا أفكر" سوى عبارة "أنا أقدر". والحاصل أنه إذا كان كل فرد يريد أن يكون حقيقيا، فعليه أن يحارب "سوء نيته" وسلوكات الفرار.
وصف سارتر في كتابه نقد العقل الجدلي الجماعات البشرية المتماثلة أو المجموعة في كتلة. إننا نكون مشتتين عندما نكون في سلسة- كطابور الحافلة. أما الجماعة الحقيقية فهي الجماعة المنصهرة. فعندما كان الناس يسيطرون على الباستيل، كانوا يشكلون جماعة حقيقية؛ فقد خرجوا من جمودهم وأبانوا عن قدرة على تغيير وضعية العالم. لذلك فإن "النحن" ليس مجرد جمع لـ"الأنا". ومع ذلك، فإن الجماعة تنزع إلى التشتت. ولذلك فإنها تحاول الحفاظ على تماسكها بخلق طقس أداء اليمين: إذ عبارة "أخوة-فخر" ستصبح عبارة عن التزامات. فالناس يصبحون أبناء لأنفسهم بفضل فعل أداء اليمين. ها نحن نتجه نحو نشأة المؤسسة التي ستتجمد بعد ذلك في دول وبيروقراطيات ووحوش باردة ستكسر الكينونات.
ابتكر ميرلو-بونتي فلسفة تتجسد في الانفتاح الإدراكي. فبالنسبة لهذا الفيلسوف، "ليس عندي جسد" كما لو عندي دراجة، وإنما الصحيح هو أنه "أنا جسد". فجسدي الشبقي يحقق سبر غور العالم. إن الفن، هذا الرسو في قلب العالم، يقتبس من جسدي المتبصر والمرئي. إن إدراكي الظاهراتي يهدهد الواقع الذي يغرقني فيه التاريخ. فضلا عن ذلك، فليس للتاريخ اتجاه كالنهر، وإنما له معنى. ويهدف تأمل ميرلو-بونتي، من خلال المرئي واللامرئي ومن خلال الأجساد -هذه المقاييس للأشياء-، إلى بناء نظرية شاملة للعقل.
يعد بول ريكور فيلسوفا ظاهراتيا، وواحدا من الفلاسفة القاريين النادرين الذين مارسوا الفلسفة التحليلية في وقت مبكر. وقد أعمل ريكور الفكر في معرفة التاريخ المصوغة على شكل سرد. يشمل كتاب الزمن والسرد التاريخ الرسمي ونظرية الأدب وظاهراتية الزمن. عندما يصوغ التاريخ ماضينا -الموروث والمنقح- في أسلوب حكائي، فإنه يقيم واقعا يتدرج فيه فعلنا ضمن استمرارية ذاكرة. وفي هذا السياق، يتحول المتكلمون إلى متحاورين قادرين على تبادل أماكنهم المتمثلة في "أنا" و"أنت" و"هو".
كان هوركهايمر وأدورنو ينشطان في الثلاثينات معهد فرانكفورت للبحوث الاجتماعية. اختار هذان الوريثان لثقافة "مرهفة" المنفى في الولايات المتحدة، وصادفا في العالم الجديد أغلبية من "المتوحشين من طينة طيبة" حسب عبارة طوماس مان. لقد أرعبتهما هناك بلاهة الحشود. لذلك شرع أدورنو في تنفيذ مشروعه الطموح المتمثل في الإمساك بظاهراتية "الحياتات المعطوبة".
وفي هذا المنظور، تكون مهمة الفلسفة هي أن تحمل للوعي التحولات التي تصورها شونبرغ وكافكا وبيكاسو على طريقتهم. وعلى كل حال، إن الفنون تعطي الكلمة لما هو مقنع، سواء من قبل مخازن الوعي الكبرى أو العمليات السيكولوجية الصغرى. والهراطقة والفنانون وحدهم يبتكرون حياتات (جمع حياة) كاملة.
يتعلق الأمر بأخذ تاريخ العقل بعين الاعتبار وتعليله. كيف أمكن للعقل أن يتراجع؟ وأن يتحول إلى "أساطير عقلانية" أنتج فيها "العلم والتقنية والتقدم" التشيء والامتثالية وإبطال الفكر؟
يعد هابرماس واحدا من أعضاء مدرسة فرانكفورت. ويعني الخروج الفعلي من النازية أو الامتثالية أو التحريفية بالنسبة له بناء "عقلانية تواصلية". وفي هذه الحالة، فإن الفعل التواصلي، الذي يعاد بناؤه عقلانيا، ينوي إعادة تفعيل مشروع الأنوار ضدا على العقل الأداتي. لقد تزعم هابرماس في السبعينات الاعتراف المتبادل القائم في نوع من إيتيقا الحوار. هذا الفيلسوف الذي يناصر نوعا من "الديمقراطية الجذرية" يستهدف طائفة مكونة بحرية يمكنها وحدها أن تؤدي إلى طاعة مشروطة؛ وبالتالي، وبعيدا عن التهربات الجمالية، يعتقد هابرماس أنه يتعين على الفيلسوف أن ينخرط في الواقع.
عندما كان النمساوي كارل بوبر يدرس عن قرب نمط اشتغال العلم، انتبه إلى أنه من الخطأ الفصل بين الملاحظة والتأمل. فالنظريات العلمية الكبرى ترتكز على قليل من المعطيات الاختبارية. فضلا عن ذلك، فإن الميتافيزيقا، التي ليست مجرد لا معنى كما كان يعتقد كارناب، توجه بالفعل البحوث العلمية. لقد صاغ جاليلي وكوبيرنيك فرضياتهم اعتمادا على أفلاطون -الأول انطلاقا من الرياضيات والثاني انطلاقا من عبادة الضوء. إن الخط الفاصل لا يوجد بين "المعنى" و"اللامعنى"، وإنما بين ما يمكن تكذيبه. وضمن هذا المنظور، لا تعد نظرية علمية إلا النظرية التي يمكن تكذيبها بواسطة إثباتات اختبارية.
يرى كارل بوبر أن فكرة القانون التاريخي تتضمن تناقضا لفظيا؛ لقد تشاجر الفيلسوف ضد التاريخانية وشوّه بشكل كبير أعمال فلاسفة كبار لم يقرأها إلا على نحو متسرع! كما أسند بوبر للديمقراطية كل الفضائل، متناسيا بسرعة أن هيتلر تم انتخابه ديمقراطيا! وبالمقابل، يعود لكارل بوبر أكبر الفضل في تدشين ورش فلسفة العلوم. وقد اتهم كوهن زميله بوبر بخلط المسيرة العادية للعلم مع لحظاته الثورية النادرة. وبالفعل، فإن الموقف النقدي (التكذيبي) لا يكون منتشرا في الفترات "العادية". والحاصل أنه لا يمكن لحقيقة نظرية معينة أن تحدد فقط بمطابقتها لـ"الواقع الخارجي"، ذلك أن العلماء لا يكفون عن "مطابقة" نظرياتهم للواقع. ويتعلق الأمر في العمق بفهم فعلي لـ"رؤى العالم"، أي للبارديجمات المتعاقبة التي تتضمن وتغني عمل العلماء. إن بطليموس وغاليلي لا "ينظران نفس الشمس"؛ والعالم المغلق والمتراتب الخاص بالعهد القديم يختلف اختلافا جذريا عن العالم اللامتناهي الخاص بعصر النهضة.
سيأتي لاكاتوس ليعيد تشكيل هذه النماذج من القطيعة والثورة العلمية -التي استخدمها كويري وباشلار. وقد أكد لاكاتوس على أنه لا يكون للطابع العلمي لنظرية ما معنى إلا في قلب مجموع يطبق عليه اسم "برنامج البحث". لكن هذا المشروع تدعمه إثباتات ميتافيزيقية لا تتعلق طبعا بالتكذيب، زد على ذلك أن الانتقال إلى بنية تفسيرية جديدة (باراديجم) لا يؤدي إلى إلغاء كل قضايا النسق السابق؛ ذلك أننا خلدنا لزمن طويل سلوكات علمية مستعارة من بنيات تفسيرية قديمة، وتجدر الإشارة إلى أن فايرابند يرى بأن تاريخ العلوم مليء بمناورات إضفاء الشرعية التي لا تعبر عن صفاء ميثاق شرف حقيقي.
إن البنيوية، التي يعد الاثنولوجي كلود ليفي-ستروس ممثلها الأكثر صرامة، برهنت على ن السلوكات الإنسانية كانت سجينة بنيات لاشعورية. ولقد حلل ليفي-ستروس، الذي اكتشف اللسانيات عن طريق ياكبسون، العلاقات القرابية للمجتمعات بدون كتابة كأنساق من العلامات. كما أن الأساطير لا تندرج، في رأيه، في سياقها الثقافي؛ بل يجب معالجتها كوحدات دلالية خالصة منتظمة في نسق. إن النموذج اللسني، وضعف الذات الكلاسيكية، واندثار الرهانات التاريخية أمور شهدت أوجها في بداية الستينات. ومع ذلك، فقد ظهرت الأبحاث الفلسفية الأكثر ابتكارا في السبعينات والثمانينات والتسعينات عندما ابتعدت عن النموذج اللسني.
عندما كان فوكو يحلل موضوعات الطب والحمق والحبس، ركز اهتمامه على السلطات التي تميز وتراقب وتعاقب وتجرم. ومع ذلك، لا تعتبر هذه السلط مجرد فعل قمعي. بل بالعكس، إنها تنتج الحقيقة والمعرفة والعلم. زد على ذلك أن كل حقيقة أنتجت تحت الإكراه. ولذلك فإن كل مجتمع ينظم مناطق حقيقته، وإبستميه. ويتعلق الأمر في العمق بتوضيح كيف يُعامل المقبول والهاشمي: الأحمق، غير السوي، غير الشرعي. عندما كان فوكو يحلل في الكلمات والأشياء إبستمي العصر الكلاسيكي، أهمل عدة أسباب -كلاسيكية جدا؟- اقتصادية أو تاريخية أو سياسية. لكنه كان أكثر دقة في كتاب المراقبة والعقاب، وعرف من خلال نموذج السجن سلطة تمارس العقاب والعلاج والإصلاح. كما أن هوس المراقبة الذي سيوجد لدى المدرسة أو الطب أو فن العمارة سيبتكر الثكنات أو المعامل أو المستشفيات التي تمارس المراقبة والترويض. ومن هذه الزاوية، فإن السلطة الحديثة تشتغل "ليس بالحق وإنما بالتقنية، ليس بالقانون وإنما بالضبط، ليس بالعقاب وإنما بالمراقبة". وبالتالي فإن الهيئات الاجتماعية الصغيرة تشكل جسد الدول؛ ذلك أن السلطة ليست فقط ما يمنع -بل هي أساسا ما يحرض، ضمن استراتيجيات دائمة لا يوجد بموجبها أحد "خارج السلطة".
أما جيل دولوز القريب من فوكو، والذي قدم قراءة جديدة لنيتشه، فقد أبدع انطلاقا من تاريخ الفلسفة. هكذا، فإن التمييز بين "القيمة الجديدة" و"القيمة القائمة" لا يجعل أبدا مما هو قائم النتيجة الواهنة لما كان شابا في وقته. توجد قيم تظهر وهي كثيفة، وتوجد أخرى تولد وهي قائمة ودونية. إن التقييم الفلسفي معناه إقحام الاختلاف بين النبيل والحقير، والابتعاد عن الحقائق الصغرى للخسة، وهي حقائق تستمد قوتها من ضعف الآخر وتردد: "أنا طيب لأنك شرير". كما عاب دولوز على التحليل النفسي كونه سحق الرغبة في تمثل عائلي بسيط. وقد عارض شجرة الفلسفة الكلاسيكية بالأرمولة وتضاعفاتها وطرقها في الإمساك بالأشياء من الوسط. إن المجددين، وهم الفنانون (بروست، بيكيت، أرتو)، لا يكفون عن الترحال وتغيير أماكن شروط الهوية. فضلا عن ذلك، فقد فكر دولوز في السينما، وتحدث عن الصور -الإدراكات (زاوية التصوير الشاملة)، والصور- الانفعالات (زاوية التصوير الكبرى)، والصور - الأفعال (زاوية التصوير الوسطى). ودشن دولوز بذلك مقاربة فلسفية للحقل السينمائي. لقد راهن هذا الصانع للمفاهيم طوال حياته على نوع من البهجة السبينوزية.
إن جان -فرانسوا ليوتار- زميل دولوز في جامعة فانسين -فيلسوف الكثافة والفرادة هو أيضا، وهو مناضل سابق في جماعة (الاشتراكية أو الهمجية)، شارك سنة 1968 في حركة 22 مارس بنانطير. وقد دشن نشيدا للرغبة بكتابه الاقتصاد الليبيدي. وسيلاحظ بعد ذلك في كتابه الشرط ما بعد حديث إفلاس حكايات التحرر الكبرى. هكذا يكون القرن العشرون قد أرغمنا على إعادة مساءلة هيجل وعلى عدم قبول فكرة أن كل ما هو واقعي عقلاني. كما رفض كتاب "Le différend" قبول فكرة أن كل السلوكات ترجع إلى قاعدة مفروضة واحدة، وأن "كل شيء يمكن بيعه". إن الاستماع إلى "النزاع" في الكيانات الاجتماعية الصغرى، في الفن، معناه الرهان على فعالية الفلسفة. في الحقيقة، إن كتاب الفلسفة يعد بالنسبة للنموذج الاقتصادي المهيمن موضوعا غريبا وعديم الجدوى، ليس لأنه مزعج أو خطير فقط، وإنما "لأنه مضيعة للوقت ولا ربح من ورائه". إن ليوتار مولع بالتجريب ومهتم بألعاب اللغة التي تحدث عنها فتجنشتاين، لذلك فقد سبر أغوار قمم مبحث الجمال المعاصر وكذا الممارسات النظرية للقديس -أوغستطين.
وقد حول ديريدا بدوره مكان الحقل الفلسفي. إذ عثر تحت الملاحم والحكايات التاريخية على قاعدة ميتافيزيقية سعى إلى تفكيكها. إن بيان جينيالوجيا المفاهيم يعني توضيح ما أخفته الأنساق التأملية. إن ثنائيات روح/جسد، صوت/كتابة، صوت/فكر تتحكم بالفعل في بعض التراتبات الفلسفية المجهولة. إن الاعتراف بغموض النصوص الميتافيزيقية أو الأدبية العظيمة لا يعني مطلقا اقتراح برامج لإعادة التقويم. والتشديد على صعوبات النصوص، معناه اقتراح استراتيجيات قراءة تعقد المقاربات.
أعاد راولز إعادة طرح مسألتي العدالة والمساواة في كتابه الطموح نظرية العدالة الذي ظهر سنة 1971. فلكي يحدد شروط إجراء اختيار منصف، جعل الناس يجهلون الوضعية الحقيقية التي سيشغلونها في مجتمع قادم. هكذا، ولأن كل فرد يتصور أنه من الممكن أن يوجد في أسفل السلم لاجتماعي، فإنه يتصور مجتمعا سيتمتع فيه أفقر الناس بأكبر قدر ممكن من الامتيازات، وذلك حتى يقلل من المخاطر التي يمكن أن يتعرض لها. إن هذا العهد يسعى إلى إنتاج أفضل اختيار ممكن بالنسبة لمجتمعات ديمقراطية لا ينتشر فيها الفقر على نطاق واسع.
يطرح راولز في أحضان التقليد الليبرالي مسألة بناء "مجتمع يتضمن أقل قدر من التفاوتات". هكذا لا يمكن للعدالة الليبرالية أن تعترف بحقوق ثقافية جماعية دون أن تناقض نفسها؛ يتعين على الدولة أن تتبنى الحياد، وبالتالي فهي ملزمة بألا تتدخل في الحقل الثقافي مادام من المستحيل تصور تحقيق إجماع في هذا المجال. بل ويتعين على الدولة أن تتجنب مساعدة ثقافة جماعة معينة، وذلك باسم مبدأ الإنصاف نفسه (الذي يفرض معاملة جميع المواطنين بنفس القدر من المساواة).
تعرضت آراء راولز لانتقادات خصبة وجهها لها تيار الطائفيين. إذ يؤكد هذا الأخير على أنه لا يكفي إرساء الفلسفة السياسية على بعض الحقوق الفردية، ذلك أنه عند ما يكتفى المرء بأخف ضرر، فإنه يحرم نفسه من طرح مسألة "أفضل نظام". إن الطائفيين يرفضون التعريف الليبرالي للهوية الفردية ويوضحون أن الفرد مكون وقائم في لغة و"عالم". ولذلك فإن الحقوق ترتبط بمجتمعات محددة ومثقلة. وبدون هذا الثقل، فإن الفرد المعاصر ينزع أكثر نحو اتخاذ "التزامات لا تلزم في شيء". ففي رأي ماك إنتير، لا يمكن أن يوجد "مجتمع فاضل" دون أن يكون أعضاؤه يقتسمون تصورا جوهرانيا للغايات الإنسانية؛ إن نسيان "الفضائل" معناه اختزال الإيتيقا إلى وظافة بسيطة يكون فيها المستهلك الأخلاقي ملكا.
لم يكن رورتي منشغلا كثيرا بمسألة الأسس؛ وقد أكد أنه عوض الرغبة في "تأسيس الديمقراطية"، من الأفضل أن نكافح مثلا ضد المفاعيل المنحرفة للعولمة. ويرى أنه ينبغي فحص معايير حقيقة مختلف الثقافات، علما أنه لا يمكن لنا أن ننفصل كليا عن تشريطاتنا السوسيوتاريخية التي لا نستطيع إخراجها من أجسادنا حتى ندرس أنفسنا "موضوعيا". ويعتقد رورتي أن العلم والفلسفة ممارستان ثقافيتان "مفيدتان عمليا".
لا يمكن لمسار القرن العشرين هذا أن ينتهي بالحصول على لوحة الشرف. ومن الأفضل بدون شك أن نشير إلى بعض المشاكل التي ستفتتح ربما القرن الواحد والعشرين. وبالفعل، بغض النظر عن العلوم الإنسانية، نلاحظ أن الفلسفة تعود اليوم بأشكال عالمة أو شعبية؛ فكثير من العلماء والفنانين والمحللين النفسيين والكتاب يصادفون في ممارستهم مسائل فلسفية. كما أن المشاهد الفلسفية تتغير وهي تتحول إلى ممارسة دولية؛ فالجسور المتحركة التي ترسم الحدود لقائمة بين الفلسفة القارية والفلسفة التحليلية بدأت ترتفع شيئا فشيئا... وقد حذا كثير من الفلاسفة حذو هانس يوناس H.Jonas في الاشتغال على مدلول المسؤولية، وأعادوا التساؤل حول العلم وقوة نجاحاته التكنولوجية. أي عالم إنساني نبني؟ أي عالم سنتركه للأجيال القادمة؟ ومن جهة أخرى، ما هو الاختلاف المقبل؟ إن مسألة الاختلاف تتضمن أيضا مسألة الآخر. لقد سبق وأن اعتبر الآخر "همجيا" ينبغي اختزاله وتدمير غيريته. وفي منظور آخر، اعتبر الآخر "مطابقا" ينبغي فقط اختزال غيريته لكي أجعله يماثلني. وقد اعتبر الآخر مطابقا سواء من قبل الاستعمار، كشكل قاس، أو من قبل النزعة الإنسية، كشكل كريم. وربما تظهر اليوم غيرية أخرى ستستهدف أشكالا من الاعتراف لا تفسد الاختلاف. إن بعض النساء، المماثلات والمختلفات، يسعين فلسفيا إلى طرح مسألة المطابق والآخر بشكل مختلف، ويحاولن أن يمفصلن على نحو معقد مدلول المساواة ومدلول الهوية ومدلول الاختلاف، وذلك بالاشتغال على الغنى الذي لا يمكن اختزاله والذي يميز الاختلافات التي لا تقبل الإلغاء. كما أن مسألة الغيرية الجوهرية التي سيتم العثور عليها في قلب الاثنولوجيا وعلم الجمال والاختلاف الجنسي تستحق أن تدرس بكل عمقها الفلسفي. وفي الواقع، لكي يحاور المرء، ينبغي أن يكون "هو نفسه". تشير حنه أرنت إلى أن "كل حضارة تختزل خلفية الاختلاف المظلمة إلى حدها الأدنى تنتهي بالتحجر".