الموضوع:
"إن الأمير الحكيم هو الذي لا يحفظ عهدا يكون الوفاء به ضياع لمصلحته "
حلل وناقش قول ميكيافيلي مبرزا طبيعة السلطة السياسية عنده.
النموذج:
تندرج القولة الماثلة بين ناظرنا ضمن سياق " مجزوءة السياسة" , وتتناول مفهوم الدولة كمفهوم مركزي.وتدل الدولة على ذلك التعبير القانوني المنظم للمجتمع والمكون من مؤسسات وأجهزة سياسية وتشريعية التي تسعى للحفاظ على وحدة المجتمع .ولاوجود للدولة بدون سلطة منظمة تحكم الناس وتسير شؤونهم العامة؛ وهي تلك القدرة المادية أو المعنوية التي يتوفر عليها الشخص الذي بيده السلطة السياسية (الحاكم) لكي يمارس تاثيره على الشعب ويوجه تصرفاتهم. ومن هنا فان السؤال الذي يطرح نفسه هو : ما طبيعة هذه السلطة السياسية؟ وماهي المؤهلات التي ينبغي توفرها في الحاكم والتي تقوده الى ممارسة السلطة والحفاظ على استمراريتها ؟ وهل ينبغي ان يتسم الحاكم بالقوة والحزم والعنف ونكث العهد ام بالاعتدال والرفق والاخلاق والقانون؟
من خلال قراءتنا للقولة يتضخ انها تنبني على اطروحة ضمنية مفادها جواز استخدام الوسائل الغير المشروعة -كالنكث بالعهد - من طرف الحاكم للضمان استمراريته والحفاظ على دولته.
أن مصلحة الامير دائما تكمن في استمراريته على عرش السلطة والحفاظ على دولته، ولكي يكون الامير حكيما يجب ان يتمتع بصفة " يفعل ما ينبغي كما ينبغي في الوقت الذي ينبغي" . وهذا ما يحتم عليه ان لا يحافظ على عهد او يفي بالتزامات قد تضيع مصلحته. والنكث بالعهد لا يمكن ان يعتبر رذيلة الا اذا كان الناس جميعهم فضلاء وخيرين، والحال أنهم مخادعين وأشرار وجبناء.
يعتبر ميكيافيلي ان هناك طريقتين لضبط الحكم؛ الطريقة الاولى هي الطريقة القانونية والتي تعتمد أو تستند الى ما هو قانوني. أما الطريقة الثانية فهي طريقة القوة والتي من خلالها يستطيع الامير ارهاب وتخويف الشعب وبسط سلطته عليهم.
ومادام الامير ملزما باستعمال القوة ، لان القانون غير كاف ، فانه يجب عليه ان يكتسب من الثعلب المكر والحذر حتى لا يسقط في فخاخ اعدائه، ويتعلم من الأسد كيف يكون قويا يهابه الجميع. فالامراء الذين حققوا اعمالا عظيمة هم من لهم القدرة على التأثير على عقول الناس بالمكر والخداع والدهاء مع القوة والعنف والشراسة.
وللدفاع عن اطروحته فقد استخدم ميكيافيلي استعارة لا تخلو من دلالة من مملكة الحيوانات، فأقرعلى أن الامير يجب ان يكون اسدا قويا وثعلبا ماكرا في نفس الوقت، أي ان يجمع بين القوة والذكاء والمكر والخداع والتمويه.. فيكون بذلك قادرا على التظاهر بامتلاك خصائل حميدة امام الناس ويكون على استعداد دائم ان يتخلى عنها كلما هددت مصلحته. اذن فطبيعة السلطة السياسية عند مكيافيلي تنبني على القوة والعنف فهو ينصح الامير ان يستخدم جميع الوسائل المتاحة لديه سواء اكانت مشروعة (القانون) او غير مشروعة ( المكر والخداع والترهيب ونكث العهود) من اجل ضمان استمراريته.
تتجلى قيمة اطروحة ميكيافيلي في كونها نهجا سياسيا فعالا ينتهجه الرؤساء والقادة لضمان البقاء على راس السلطة ، على رأسهم القادة العرب الذين تبنوا هده الاطروحة عن ظهر قلب. فالقذافي مثلا ،قد استخدم جميع انواع المكر والخداع والعنف ضد شعبه؛ فمنذ انقلابه العسكري على الحكم الملكي عام 1969، وعد الشعب الليبي بالحرية والاستقلال والديمقراطية والرخاء، لكن عهوده اتسمت بعدم المصداقية وبعدم تنفيدها ، لانه لو وفى بها ستضر بمصالحه ؛ اد ستسود الديمقراطية ويكون عليه مغادرة السلطة عند انتهاء ولايته مما يعني عدم الاستمرارية في الحكم. لدلك واجه شعبه بالقمع والعنف والترهيب ، الشيء الذي ضمن له البقاء على رأس السلطة لعقود. وحاله حال باقي الرؤساء العرب كابن علي ومبارك وعلي صالح الذين تبنوا نفس السياسة.
ادن يتضح جليا ان اتباع النهج الذي وضعه ميكيافيلي يعطي أكله للاستمرارية في السلطة ودوام الحكم. لكن أليس هذا العنف والتسلط يفضي الى عواقب وخيمة كثورات الشعوب التي نشهدها اليوم ضد هده الانظمة السياسية الاستبدادية؟ أليست هده الثورات ، والتي هي مشروعة ، ستؤدي الى اضرابات للعمال وتراجع للاقتصاد مما سيجعل هده البلدان تعود خطوات للوراء؟ الا يؤدي هدا الحكم الجائر لهؤلاء الحكام الى محاكمتهم يوما ما دوليا وتعرضهم لعقوبة الاعدام مما سيجعلهم يدخلون "مزبلة التاريخ" من اوسع ابوابها؟ أليس الرفق والاعتدال والديمقراطية وتحقيق مصالح الشعب هما من جعلا تشافيز(رئيس فنزويلا) محبوبا لدى شعبه ومتشبتين به؟
هنا وفي مقابل الرؤية التي تقرن السلطة السياسية بالعنف والقوة والمكر ونكث العهد... يرى ابن خلدون انا الحاكم يجب ان يعامل شعبه بالرفق والاعتدال والتوسط, فالعلاقة بين السلطان ورعيته هي علاقة جدلية؛ فالسلطان هو من له رعية ، والرعية هي من لها سلطان. وهده العلاقة هي نمودج السياسة المثلى التي تقوم على الاعتدال. فالرعية لا يهمها من السلطان لا صفاته الجسمية ولا قدراته العقلية . ان الرعية تهتم فقط بما يمكن ان يلمسوه من تاثير حكمه على حياتهم؛ فاذا تاسس الحكم على الاستبداد والتربص بالرعية فعلى السلطان ان يتوقع خذلان من رعيته عند الحاجة اليهم في الحرب و الشدائد لان الظلم يفسد اخلاق الناس. اما اذا كان السلطان حليما،عطوفا وعادلا تناسوا سيئاته وأحبوه. لذلك يعتبر ابن خلدون أن السلطة السياسية يجب ان تقوم على الاعتدال والرفق والتوسط بين السلطان ورعيته وليس الدخول معهم في الصراع والعنف والنبد اذ هي إرادت الاستمرار.
ختاما، فادا كانت القولة تعتبر ان النكث بالعهد واستخدام الوسائل المشروعة والغير مشروعة هو من يضمن استمرار السلطة (ميكيافيلي) ، فان هنالك من يعتبر أن الرفق والاعتدال والاخلاق هم من يضمنون استمراريتها ( ابن خلدون) . وتمثل كل فيلسوف للسلطة السياسية انما هو نابع من المناخ السياسي وطبيعة الدولة في عصره. فميكيافيلي الحالم بوحدة ايطاليا وقوتها دفعه لتصور سلطة سياسية تتسم بالبرغماتية ( الغاية تبرر الوسيلة) . أما ابن خلدون فموقفه يتسم بالتحليل التاريخي للسلطة السياسية في المجتمعات الإسلامية العربية.
أما بصدد رأيي الشخصي فانني اضم صوتي الى ما ذهب اليه ابن خلدون ، لأنه لا يجب تحت أي مبرر أو منطق الانسياق مع الفلسفات العنيفة التي تجعل العنف والقوة والمكر والخداع ونكث العهود صفات واجبة في الحاكم لكي يعيش وحده في قمة الرفاهية على حساب مصالح الشعب.