الإنسان بين الحتمية واللاحتمية
د. زهير توفيق
هل أنا حر في تنفيذ رغباتي؟ وقادر على الاختيار بملء إرادتي وتحمل مسؤولية تصرفاتي مهما كانت النتائج؟ أم أنا مُسيّر وخاضع لحتمية كونية شاملة وصارمة لا تفلت منها حركة أو مفردة كونية في هذا العالم؟.
تلك هي معضلتي الوجودية كانسان، فلو كنت حرا طليقا كامل الإرادة، كما أتصور أو أتمنى، لعجزت العلوم ـ من حيث المبدأ ـ عن السيطرة على الطبيعة وتفسير تناقضاتها ومظاهرها وتكييفها لمصلحة الإنسان. وحتما سيمتد هذا العجز إلى العلوم الاجتماعية - التي تدرس سلوك الإنسان الداخلي والخارجي - التي ستعجز عن تحقيق أي مستوى من التقدم والتراكم المعرفي ، ولهذا يفترض العلم مقولة الحتمية: أي العًليّة أو السببية عقليا وموضوعيا. ولولاها لانهار بناء العلم وعجز عن تفسير مقنع للظواهر أو التنبؤ والتحكم وصياغة القوانين والتعميمات.
أما على صعيد الإنسان ، فلو كنت حرا وقادرا على تظهير خياراتي وقناعاتي ، لكنت في اللحظة التي اختار فيها هذا الفعل ، قادرا أن اختار ذاك أو اختار اللافعل: أي استنكف عن القيام بأي إجراء بمحض إرادتي ورغبتي. وهذا يعني مصادرة طموح المعارف الإنسانية بالتحول إلى علوم إنسانية منضبطة لها موضوعها ومنهجها.
ان هذا هو سر تردد وتخلف العلوم الإنسانية عن العلوم الطبيعية. فلكل إنسان (ونحن نتحدث هنا على مستوى الفرد لا مستوى النوع) تجربته الفردية الخاصة ، ولا يمكن استبدال شخص بآخر أو التنبؤ بسلوك السيد مجدي تبعا لاستقصاءات أو تجارب أجريت على السيد إبراهيم ، إلا إذا افترضنا التطابق التام بين بني البشر ، فالتعميم الحاصل في العلوم الطبيعية يعني أن الأشياء قابلة للاستبدال ، وان الحجر ينوب عن قطعة الحديد أو ما شابه ذلك لدراسة قانون السقوط الحر والجاذبية.
أما الإنسان ، فكرامته الاستثنائية وإرادته وفرديته تفترض شخصية مستقلة لا يمكن تعويضها أو استبدالها بأي شيء آخر إذا أردنا دراسة إنسانيته أو ما يتعلق بتلك الإنسانية ، وبالتالي فالتعميم والتنبؤ في العلوم الإنسانية كان وما زال على جانب كبير من التعسف والانحراف.
فكثيرا من استطلاعات الرأي والاستبانات الاجتماعية فشلت في رصد اتجاهات الرأي العام أو أذواق الجماهير ، لسبب بسيط وهو قدرة الفئات المستهدفة أو رغبتها بالإدلاء بآراء تناقض قناعاتها لأسباب منها الخوف ، ومنها رغبتها بإفشال تلك الاستطلاعات لعدم الثقة بموضوعيتها. فتخيلوا مثلاً استبانة لرصد اتجاهات الادخار والاستهلاك والدخل للمواطن الأردني ، فكم سيكون مستوى المغالطات والانحراف والتشتت في النتائج؟.
وها هي المشاريع السياسية والاقتصادية تتهاوى وتصل إلى عكس ما أرادت رغم التماسك الظاهري والمنطق الشكلي اللذين تتسم بهما. وما زالت علمية المعارف الإنسانية طموحا مشروعا وليس واقعا إجرائيا. ولهذا يفضل الكثير من المفكرين والعلماء إطلاق مفهوم المعارف الإنسانية بدلا عن العلوم الإنسانية ، مع التنويه ببعض النجاحات في قطاعات معينة من الاقتصاد والديموغرافيا واللغة.
وفي مقابل ذلك تطرح حرية الاختيار كمبدأ أولي لتسويغ مسؤولية الإنسان عن أفعاله. فالمسؤولية الدينية والأخلاقية والقانونية تفترض من حيث المبدأ حريتي في اختيار أفعالي بدون إكراهات مسبقة حتى يتسنى محاسبتي عليها سلبا أو إيجابا. ولو كانت تلك الأفعال حتمية مقدرة لانتفت إرادتي أو إرادة الإنسان في التاريخ. وخضعنا جميعاً بأفعالنا وخياراتنا لحتمية تقودنا شئنا أم أبينا إلى غاية محددة ، ولذلك فإثابتي أو عقوبتي على أفعال خارج إرادتي أو فوق قدراتي غير جائزة ولا معنى لها.
الحتمية..والحرية
فهل يعني ذلك أن الإنسان هو مجال الحرية ومظهرها ، وان الطبيعة مجال الحتمية؟.
سبق للفيلسوف سارتر 1905( - )1980 أن وحّد الحرية بالإنسان ، واعتبرها قدره الذي لا فكاك منه ، فالحرية والإنسان شيء واحد والتخلي عنها يعني التخلي عن إنسانيته.
إلا أن حرية سارتر كمذهب فلسفي واجهت المتاعب والنقد من اغلب المذاهب الفلسفية في القرن العشرين: كالماركسية التي تفرد مجالا للحتمية ، وتعتبر التقدم وتطور المجتمعات ثمرة الحتمية التاريخية. أما البنيوية التي راجت في عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي ، فقد واجهت الفلسفة الوجودية بمقولات البنية الثابتة السابقة لنشاط الإنسان الحر.
لقد حققت العلوم الإنسانية ـ كعلم النفس الحديث ـ نجاحات كبيرة استنادا لمقولة الحتمية ، فالسلوك الإنساني في المدرسة السلوكية أو في علم النفس التحليلي الفرويدي ، قابل للتفسير لخضوعه لقوى حتمية أولية هي اللاشعور أو اللاوعي في التحليل النفسي. ولهذا تأتي أهمية عمليات التعليم والتربية لتكييف الفرد لردود أفعال معينة تكون متوقعة أو مطلوبة ، ولو كان الإنسان حرا لا يخضع لأي نوع من الحتمية لكان من الصعب تسويغ تربيته طويلة المدى،.
لقد ظلت مقولة الحتمية واللاحتمية ، أو حرية الاختيار ، مقولة تاريخية عبرت عن رغبة الإنسان بتسويغ حاجاته وانجازاته وتطلعاته. وعكست الحتمية أو اللاحتمية في الفلسفة مناخ العلم ومسيرته الطويلة من القرن السابع عشر وحتى القرن العشرين ، حتى ظهرت فيزياء الكوانتم القائمة على اللاتحدد او اللاحتمية في العالم المجهري ، وجرت على إثرها مساجلات مريرة بين أنصار الحتمية ـ كالعالم اينشتاين ـ وخصومه من أنصار الكوانتم : نيلز بور وفيرنر هاينزبرج.
ورغم ذلك سيبقى إحساسنا ورغبتنا الإنسانية بكوننا أحراراً لإشباع فضولنا الإنساني وحقنا بسيادتنا على مصيرنا. فالإنسان حر كما افترض الوجوديون وغيرهم من أنصار القانون الطبيعي والحق الطبيعي الذي رافق عصر التنوير وصعود البرجوازية كطبقة تقدمية ، واعتبار حرية الإنسان معطى طبيعياً أولياً خالياَ من الضغوط والاكراهات المتحكمة به أو المسيطرة عليه ، لأنها في المحصلة إكراهات تاريخية منافية للعقل أي للوضع الطبيعي للأشياء ، ولذلك فهي عرضة للزوال. وكان سلاح الحق الطبيعي والقانون الطبيعي سلاح التنوير في نضال الإنسان المشروع ضد القوى السيطرة والاستبداد الديني والسياسي في أوروبا ، فالإنسان سيّد نفسه وقائد ذاته ، ولا ينتظر الوصايا والتعليمات الخارجية لاختيار طريق الخلاص. وفي هذا السياق نحن مع الحرية ما دامت أداة للسمو البشري ، وحالة وجدانية وإجرائية لتمييز الإنسان عن البهائم والجمادات وتخليصه من التشيؤ والعبودية ، فهو السيّدُ وله حريته وكرامته المطلقة.