السؤال:
هل يمكن تصور دولة دون عنف ؟
إجابة التلميذة:
يحاول الإنسان على مر العصور تنظيم حياته وجعلها أكثر أمنا وسلاما عكس الحياة الطبيعية العنيفة التي كان يعيشها، فتوصل إلى تأسيس الدولة التي تعتبر كيانا واحدا يخضع له الكل، بهدف تحقيق الاستقرار والراحة للأفراد المنتمين إلى الدولة. لكن الإنسان يعد ميالا للعنف والعدوان، فهو لم يتغير عن حالة الطبيعة مطلقا فلا يزال يتصارع لتحقيق رغباته مع كل من يقف في طريقه، وهنا يأتي دور الدولة كي تفك النزاع وتقف كحكم بين المتصارعين أفرادا كانوا أو جماعات، فتلجأ هي الأخرى إلى استعمال قوتها والعنف لتحقيق هدفها.
ترى ما علاقة الدولة بالعنف ؟ هل العنف وسيلة مبررة ومشروعة للدولة ؟ ألا يمكن أن تتعدى الدولة حدود هذا العنف وتخرج عن نطاق أهدافها ؟ وما هي حدود هذا العنف المشروع ؟ ألا يمكننا استبعاد العنف المحتكر من طرف الدولة والبحث عن وسيلة أنجع لفك النزاعات بين الأفراد ؟
عندما نتكلم عن إمكانية تصور دولة دون عنف يجعلنا هذا نحمل فكرة مسبقة عن كون الدولة تحمل في ثناياها العنف، أي أنها تعتمد على العنف من أجل غايات في ذاتها. لذا فنحن نحاول معرفة فيما إذا كان من الممكن تخيل دولة دون عنف والتحدث عن خصائصها ومميزاتها ومقارنتها مع الدولة الحالية الواقعية.
إن السؤال هنا يضعنا أمام موقف يحتم علينا استخدام خيالنا لتصور دولة خالية من كل أشكال العنف. فإمكانية وجود دولة دون عنف تبقى محدودة حسب مقدرة الشخص على تصور ذلك، لأن الدولة والعنف يبدوان كمفهومين متلازمين، وهل من الممكن الفصل بينهما ؟
إن الدولة كما تم تعريفها هي ذلك التنظيم السياسي المستقل الذي وضعه الإنسان نفسه كي يحكمه وينظم حياته ويحقق الأمن والسلام داخل المجتمعات، للخروج من حياة الطبيعة التي عاشها الإنسان القديم من صراعات وتعنيف وظلم كما تخيلها الفلاسفة.
ويرى اسبينوزا أن الغاية الحقيقية من تأسيس الدولة هو ضمان الحقوق الطبيعية للأفراد ومنحهم الحرية والأمن والاستقرار، وتجنيبهم الحقد والكراهية والصراع وكل ما يحكم قوانين الطبيعة.
لكن إذا كان الهدف من الدولة هو نبذ الحياة البدائية العنيفة التي عاشها الإنسان قديما، فماذا نقول عن العنف والظلم السائدين في حياتنا اليوم ؟ هل تعد الدولة مسؤولة عنه لأنها لم تحقق الغاية من وجودها؟
في مناقشتنا لمحور ” الدولة بين الحق والعنف ” أثناء حصة الفلسفة دخلت في نقاش مع الأستاذ حول تعريف العنف. وقد قدم لي تعاريفا للعنف من أحد الكتب الفلسفية وغيرها وكان جوابه كالتالي: « العنف هو إلحاق الضرر بالغير دون موافقته » و « العنف هو اللجوء إلى القوة من أجل إخضاع أحد من الناس ضد إرادته، وهو ممارسة ضد القانون والحق ». ومن هنا يحق لي التساؤل إذا كان العنف ضد إرادة الغير، فماذا نقول عن العنف الممارس من طرف الدولة علينا ؟ أهو ضد إرادتنا ونحن ننتمي إليها ونوافق على بنودها ودساتيرها وقوانينها ؟ فبهذا المفهوم نحن نوافق على العنف الممارس من طرف الدولة، فهو مع إرادتنا لأننا مسؤولون على تأسيس الدولة، ومن هنا رأيت أن العنف بعلاقته مع الدولة يخرج عن تعريفه الذي ذكرناه سابقا. لذلك لم تكن تلك التعاريف مقنعة لي حسب وجهة نظري. كما أنها تقتصر فقط على العنف المادي أو الفيزيائي الذي يركز على القوة. ولكن ما بال العنف التي تمارسه علينا وسائل الإعلام عبر بث الثقافات وزرع القيم المنافية لتقاليدنا وأخلاقنا وغيرها، أو العنصرية التي تعد عنفا في حد ذاتها لما تطبق من قمع وكبث للغير داخل الدولة التي لا ينتمي إليها ؟
من خلال مناقشتي هاته سأقتصر على العنف وعلاقته بالدولة. لقد جاءت الدولة كنظام يفرض القوانين ويشرعها بهدف الحفاظ على حياة كل فرد داخلها، وبالتالي عليها دحض العنف المستتب بين الأفراد. لذا أصبح العنف داخل الدولة غير مشروع بين الأفراد، ولذلك نرى عدة جمعيات ومؤسسات دولية تحمل شعارات وتطالب بها مثل: “لا للعنف ضد المرأة” أو “لا للعنف ضد الأطفال” وغيرها.
لكن كيف يمكن للدولة محاربة العنف ؟ ألها الحق والمشروعية في استعمال العنف ؟ واعتمادا على هذا نستحضر موقف ماكس فيبر الذي يقر بعدم إمكانية تعريف الدولة إلا انطلاقا من العنف مستمدا فكرته من أحد أقوال تروتسكي: « كل دولة هي جهاز مؤسس على العنف ». والعنف الذي يتحدث عنه هنا هو العنف المادي الفيزيائي أو ما يسميه البعض العنف البوليسي المحدث من طرف القوات البوليسية التي تحافظ على الأمن والسلام داخل الدولة.
ففي نظر فيبر العنف مشروع له صبغة قانونية ومؤسساتية، للدولة فقط الحق في احتكاره وممارسته داخلها لأجل تحقيق الهدف الأسمى وهو ضمان الحياة للأفراد. وهذا ما تعرفه دولنا في كل أنحاء العالم، إذ متى تم الاعتداء على أي فرد داخل الدولة أو خارجها، فالمسؤولية تقف على عاتق الدولة لأنها هي المسؤولة عن حل النزاعات وإبادة العنف، وذلك اعتمادا على أحد أنظمتها السياسية التي ترتكز عليها وهي السلطة القضائية التي تهتم بفصل النزاعات بين الأفراد أو الجماعات وإعادة الاستقرار إلى البلد. لكن ما هي حدود ممارسة الدولة للعنف ؟ هل عنف مطلق أم نسبي ؟ فهل للدولة الحق في القتل أي سلب حياة الناس وهو يعد أقصى درجات العنف ؟ وهل لها الحق في السجن مع العلم أنها تضمن الحرية للأفراد ؟
إن الدول حاليا لها الحق في السجن والقتل إذا دعت الضرورة إلى ذلك، ألا يعد هذا عنف زائد عن اللزوم؟
لقد أعطانا ميشو مثالا على القرن العشرين الذي تميز بمجموعة من الأحداث العنيفة المتمثلة في الحروب والإبادات والاضطهاد وكذا معسكرات الاعتقال والإجرام. كل هذا من خصائص الدولة الحالية التي تحارب العنف رغم أنها مسؤولة عن كل هذا العدوان والتعنيف، لأنها شرعت استخدام الأسلحة، وهدا ما أدى إلى زيادة حدة العنف سواء من الناحية الكمية أو النوعية.
من خلال ما أطلعنا عليه ميشو يتبين لي أن الدولة أصبحت عنفا في حد ذاتها، فالعنف هدفها وليس وسيلة من أجل تحقيق أهدافها. فإذا اعتبرنا الدولة مسؤولة عن الحد من العنف القائم بين الأفراد، فمن المسؤول عن الحد من العنف القائم بين الدول ؟
إنني أرى أن لحنا أراندت الحق في التساؤل حول تفسير العنف لما يصل إلى أقصاه ، أي إلى حدود غير متوقعة وإلى ما سمته الشر المحض أو الشر الراديكالي. فما اعتبرته حنا أرندت شرا مطلقا هو موجود حاليا نلحظه من خلال الأحداث التي نحياها، إنه الشر الذي يميز الصهاينة والإسرائيليين، إنه العنف الذي تمارسه بعض الدول الأجنبية على المسلمين من قهر وظلم وإبادة وتقتيل. أيمكننا نكران هذه الحقائق التي نحياها ؟ ولهذا كيف يمكن تصور دولة دون عنف وكل ما يوجد حولنا يؤكد على ضرورة عدم فصل الدولة عن العنف ؟ لقد أصبحا مفهومين متلازمين يستحيل التطلع إلى الفصل بينهما.
إن بيير بورديو يرصد لنا النوع الآخر للعنف، ألا وهو العنف غير المحسوس. فلقد انتقد الفكر الماركسي الذي اهتم فقط بالعنف المادي والاقتصادي. وفسر لنا بورديو العنف غير المحسوس بكونه العنف الممارس على الفاعلين الجمعويين أو الاجتماعيين داخل الدولة بموافقتهم ورضاهم، فأصبح هذا العنف وسيلة تستند عليها السلطة السياسية لبسط سيطرتها على الأفراد.
لكن ماذا نقول عن الأحزاب السياسية التي تقوم بانقلابات ضد الأنظمة السياسية المستعملة داخل الدولة ؟ إنهم يرفضون القوانين الدولية، وفي هذه الحالة أيحق للدولة مممارسة التعنيف ضدهم علما أن الدولة لها الحق والمشروعية في استخدام العنف فقط ضد الموافقين على قوانينها والخاضعين لها ؟
وفي آخر المطاف لا نزال نتساءل حول إمكانية تصور دولة دون عنف، لأن الإنسان تعب من هذه الحياة العنيفة ويتطلع دائما إلى الأفضل. ونعلم أن العنف يبقى دائما خصلة مذمومة يسعى الإنسان مند نشأته إلى محاربتها واستبعادها. ولذلك قام بتأسيس الدولة واحترام قوانينها، ولكن هذه الأخيرة باتت تستند على العنف أيضا. لكن ألا يمكن التخلي على العنف بشكل نهائي أو إيجاد حلول أفضل لحل النزاعات ؟
إن الزعيم الهندي واحد من أبرز الذين ينبذون العنف ويكرهونه، فهو يطالب بمبدإ أخلاقي روحي سامي وهو اللاعنف المبني على الإرادة الطيبة تجاه الآخرين وعلى الحب بين الناس. إنه يدعو الناس إلى تعميم الصداقة ومكافحة العنف بسلاح أخلاقي وذهن صافي من كل أشكال الحقد والكراهية لتخييب أمل المعتدي العنيف وإحساسه بإنسانيته للإقلاع عن فعله.
إذن يمكن القول بأن غاندي يقف ضد مشروعية استخدام العنف سواء بالنسبة للأفراد أو الدولة، باعتباره أن العنف ليس مفتاحا لحل النزاعات وأنه غياب للإرادة الطيبة تجاه كل من يحيى. إنه القانون الذي يحكم النوع الحيواني، وفي المقابل اللاعنف هو القانون الذي يحكم النوع الإنساني.
وخلاصة القول تنبني على أننا نستطيع تصور دولة دون عنف إذا ما عكسنا أفكارنا نحو مبادئ أخلاقية سامية بعيدا عن التأثيرات الواقعية المحيطة بنا.
لكن هل يمكن غض البصر عن العنف في واقعنا ؟ هل يمكننا اللجوء إلى مبدإ اللاعنف الذي دعانا إليه غاندي مع أناس لا يعرفون معنى الإنسانية ؟ أليست طبيعة الإنسان ميالة إلى العنف والعدوانية كما يزعم البعض ؟ وهل هناك احتمال إبعاد العنف عن سلوك الإنسان ؟