عندما تستكمل الذات الوعي بذاتها، تكتشف في ثنايا هذا الوعي الحضور الوازن والمؤثر للغير؛ مما يدفعها حينئذ إلى التفكير في سبل خلق جسور التواصل معه قصد معرفته واختراق حدوده وعالمه؛ إذ يسهل على الذات التعرف عليه أحيانا، فإنه بالمقابل يعسر عليه ذلك في أحيان أخرى. فهل معرفة الغير ممكنة؟ وكيف تتأتى لنا معرفته؟
هل أعرفه كما أعرف الأشياء أي كموضوع؟ أم أتعرف عليه كذات تحمل وعيا وإرادة وحرية؟
جوابا على هذا الإشكال يذهب مالبرانش في كتابه "البحث عن الحقيقة" إلى أن معرفة الغير صعبة إن لم تكن مستحيلة، ويمكن إيعاز ذلك إلى أن كل ما تستطيع الذات أن تشكله عنه، لا يمكن أن يبرح نطاق مظهره الخارجي. وبذلك تكون معرفتنا عنه قائمة على الافتراض والتخمين، مما يدفعنا نحو إسقاط إحساساتنا ومشاعرنا على الآخر كحل لتجاوز المعيقات التي تواجه معرفته. إن درجة التفاهم والشعور المتبادلة بين الأفراد في حيز جغرافي معين، لا تترجم إطلاقا أن كل واحد يعرف الآخر على نحو حقييقي، بحجة أن كل واحد منهما يملك من القدرات ما يكفيه لإخفاء ما يشكل حقيقة ذاته، وبذلك تكون المعارف التي لدينا عن الآخرين، قريبين أو بعيدين، هي محض إفتراض وتخمين ليس إلا؛ ففي حالات عديدة يبرز شخص ما، تضامنه مع شخص آخر، نتيجة إحساسه بآلامه، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يملك ذلك الشخص نفس الإحساس الذي يشعر به المتألم؟ ثم ألا يمكن أن يكون ما أظهره له مجرد شفقة لا غير؟ هنا تنكشف العلاقة بين الأنا والآخر، فأنا أراك فعلا تتألم، لكن إحساسي بك لا يمكن أن يدوم طويلا، لأنني سأخفيه سريعا. هذه إذن هي الأسباب التي تجعل من المعرفة المتبادلة بين الأنا والآخر شيئا صعبا وغير ممكن.
وعلى خلاف مالبرانش يتصور شيلر، أن معرفة الغير وإدراكه ممكن، لكن شريطة الوعي بأنه ليس عبارة عن مستويين متعارضين واحد خارجي والثاني داخلي؛ وإنما على أساس اعتباره وحدة متكاملة يعتبر فيها المطهر الخارجي صورة مطابقة للإحساس الداخلي؛ وبذلك، فإن ما يتبدى على الغير من ملامح خارجية، تعكس بالضرورة إحساسات داخلية مماثلة لها. إن معرفة الغير لا تتم إذن إلا من خلال آلية التعاطف الوجداني التي تجعل الذات تسعى إليه وتفهمه، رغم علمها المسبق بأنها لن تتألم ألمه ولن تفرح فرحه لأنها لن تكون هي الغير، ومع ذلك يمكنها دائما أن تتألم وتفرح معه، وأن تقترب منه عبر اقترابها من نفسها، باعتماد نوع من النقل الداخلي للخبرة الوجدانية، إذ سبق للذات أن تألمت وفرحت. إذن بالمماثلة والتعاطف الوجداني يمكن للأنا أن تقترب من الغير وتتعرف عليه.
أما ميرلوبونتي فهو يرى عكس سارتر أن نظرة الغير لا تحول الذات إلى موضوع والعكس كذلك، فالعلاقة القائمة بينهما تفصح عن إمكانات واسعة غير تشييء بعضهما للآخر؛ ما دام أن كل واحد منهما يملك ما يكفيه من المؤهلات لمعرفة الآخر، وذلك عن طريق التواصل والحوار؛ فالنطق ولو بكلمات قليلة هو دليل قاطع على أن كل ذات لا يمكن أن تعيش في العالم وحيدة، ما دام أن حقيقة وجودها تكمن في البينذاتية . التي تفيد أن وجود الأنا أن بين الذوات أمورا مشتركة تجعل من وجودها شيئا واحدا.
هكذا يتضح أن هناك تصورات متباينة من إشكالية معرفة الغير، تتراوح بين القول باستحالة معرفة الغير وتأكيد هذه المعرفة. بل إن القائلين بإمكانية معرفة الغير هم أيضا يختلفون في الكيفية التي يجب النظر بها إلى الغير، هل يجب النظر إلى الغير كموضوع خارجي لا تربطه أي صلة بالذات، أم كذات؟
إن النظر إلى الغير كموضوع قد يفضي إلى علاقة سلبية بين الأنا والغير، إنها علاقة تشييء، أي النظر إليه كشيء بين الأشياء، وتجميد لكل إمكانيات الغير، ما دام هذا الغير جحيما بالنسبة للأنا. لكن الواقع الفعلي يكشف عن علاقة مخالفة لما ذهب إليه سارتر. صحيح أن اللقاء مع الغير لا يخلو من توتر ونظرتي إليه تتفحصه كموضوع طبيعي حي، لكن بمجرد ما يتكلم حتى يكف الغير على أن يكون متعاليا وغامضا ولغزا، لتنتسج بينه وبين الذات علاقة إنسانية قوامها التعاطف والتداخل الوجدانيين، فالتعبير عن الفرح أو الغضب أو الحزن يفهم كقاسم إنساني مشترك بعد أن تكون اللغة قد وطدت دعائمه ومهد الكلام طريقه، كما بين ذلك ميرلوبونتي. كما أن التواصل مع الغير لا يجب أن يقف عند فعل المعرفة واستخدام مناهج تعتمد على المقاربة بالمماثلة (عند ماكس شيلر) لأن من شأن هذه المناهج أن تفضي إلى معرفة هلامية بالغير، وافتراض شفافية الذات إزاء نفسها وتسليمها بكونية الطبيعة البشرية، غن مظاهر حالات الغير ومشاعره تكون لها دلالات مختلفة، فالبكاء لا يفيد الحزن دائما، والعقل ليس دائما هو الطريق لمعرفة الذات الإنسانية، ذلك أن الذات لا تقف، كما أكد ذلك المحلل النفسي النمساوي فرويد، عند مستوى الوعي والإدراك الواضح، بل هي بنية نفسية لا شعورية عميقة يصعب سبر غورها. إنها تشكل كلا مركبا ومتغيرا عبر الزمن، وبالتالي فهي تند عن تحديد أو ضبط علمي دقيق لمكوناتها. إذن الوقوف عند حدود المعرفة لا يمدنا بفهم عميق للغير، بل لا بد من التواصل معه انطلاقا من مفهوم الاعتراف المتبادل كمبدأ ضروري يمكن من النظر إلى الغير لا كموضوع بل كذات مغايرة لذاتي، لكنها مساوية لها في القيمة، تربطني بها علاقة احترام متبادل.