تمثل السعادة الغاية المثلى والخير الأسمى الذي يطمح كل إنسان إلى تحقيقه في حياته. فالإنسان منذ وجوده على الأرض لم ينقطع أمله في أن تكون أفعاله وأقواله مصدرا لجلب الراحة والطمأنينة وأن تبتعد في مقابل ذلك عن كل ما يجلب الشقاء والألم. فهل السعادة ممكنة أم مستحيلة؟ وهل إشباع كل رغبات الإنسان يجلب له السعادة أم الشقاء؟
تختلف تمثلات الناس للسعادة من فرد لآخر، فهي عند البعض إشباع وإرواء لمطالب الجسم، وعند البعض الآخر فهي ترتفع عن الشهوات المادية والحسية. كما أن هناك من ينظر إليها باعتبارها شأنا خاصا وفرديا، في حين ينظر إليها آخرون باعتبارها شأنا عاما وجماعيا. إضافة إلى ذلك، هناك فئة أخرى تنظر إلى السعادة باعتبارها غاية يمكن أن تتحقق عن طريق تسخير الآخرين لتلبية سائر رغبات الذات. أما الفئة الأخرى فتنظر إليها كفعل أو سلوك متوقف على مجهود الذات وعملها المستمر. علاوة على ذلك، يعتقد البعض أن السعادة ممكنة في هذا العالم في الوقت الذي تتوفر فيه وسائل تحقيقها. أما عند البعض الآخر، فالسعادة الحقيقية لديه تكمن في الإحساس بفرح وسعادة الجميع.
ما من شك إذن أن دلالة السعادة تختلف من إنسان إلى آخر. فكيف تتحدد السعادة؟ وهل من الممكن توحيد نظرة الناس لها، أم أن لكل واحد تصوره الخاص بها، بالنظر إلى استعداداته وإمكاناته وميولاته؟ وهل السعادة إرضاء للذات الجسم أم العقل؟ وأخيرا هل إرضاء كل رغبات الإنسان مجلبة للسعادة أم للشقاء؟
لننتقل الآن إلى تصورات بعض الفلاسفة للسعادة على اعتبار أن هذا المفهوم شغل حيزا كبيرا من اهتماماتهم. فأبيقور يؤكد أن تحقيق السعادة رهين بإشباع اللذات؛ لذا ينبغي على طالب السعادة أن يعتبرها غاية كاملة، وأن لا يولي عليها شيئا آخر، ما دام أن تحقيقها كفيل بتجنيب الجسم الألم والنفس الاضطراب، على أن اللذات المقصودة لا تتعلق بالجسم فقط بل إنها تشمل الجسم والنفس على حد سواء. بينما نجد أرسطو يقيم تمييزا واضحا بين تصورين للسعادة، هما: تصور السواد الأعظم من الناس، وتصور العقلاء والحكماء. فلدى الناس العاديين تتحقق السعادة في الوقت الذي يتم فيه إشباع مطالب الجسم الحسية. أما العقلاء والحكماء، فيرون أن حصر السعادة فيما هو حسي، من شأنه أن يضع الإنسان في مرتبة البهائم والحيوانات. يضاف إلى ذلك أن ما تحققه تلك اللذات آني ولحظي، لذا وجب ربطها بما هو كامل ودائم، والمتمثل في التأمل والمجد. يقول أرسطو: " فالطبائع العامية الغليظة إذن ترى أن السعادة في اللذة، ومن أجل هذا، فهي لا تحب إلا العيش في ضروب الاستمتاع المادي (...) ضدا على ذلك، فالعقول الممتازة النشيطة تضع السعادة في المجد...)
وفي نفس الاتجاه أيضا، يؤكد ابن مسكويه وجود اختلافات عميقة وجذرية في تصورات الفلاسفة للسعادة، حيث ربطها البعض بالنفس، والبعض الآخر بالبدن أو الجسم، في حين فضل آخرون عدم الفصل بين النفس والجسم. على هذا الأساس، يمكن القول بأنه بالرغم من توق الجميع نحو السعادة فإنه من المستحيل إرجاعها إلى مصدر واحد؛ فكل واحد يضع سعادته فيما يراه ضامنا لتحقيق استقراره ورفاهه. فالفقير، حسب ابن مسكويه، يرى أن السعادة في الثروة واليسر، والمريض في الصحة والسلامة، والذليل يرى أنها في الجاه والسلطان، والخليع يرى أنها في الظفر بالمعشوق، والفاضل يرى أنها في إفاضة المعروف على المستحقين، والفيلسوف يرى أن أن هذه كلها إذا كانت مرتبة بحسب تقسيط العقل، أي عند الحاجة، وفي الوقت الذي يجب، وكما يجب، وعند من يجب، فهي كلها سعادات. وهو نفس الموقف الذي نجده عند أغلب الفلاسفة المسلمين كأبو نصر الفارابي وفخر الدين الرازي. فالأول يجعل من اللذة العقلية خيرا على الإطلاق لأننا نطلبها لذاتها لا لشيء آخر، فهي مكتفية بذاتها وكمال لصاحبها. أما الثاني، فيؤكد على أن السعادة الحقيقية تكمن فيما يملكه الإنسان من علوم ومعارف وأخلاق فاضلة، لا في الإشباع المادي الحسي الصرف.
ومن جهة أخرى، لا ينكر كانط أن السعادة غاية كل إنسان، بل إنها أسمى الغايات على الإطلاق، إلا أن محدودية الكائن الإنساني وتعدد رغباته واختلافها، يجعل السعادة مثالا خياليا، يصعب تحقيقه دون تحويله إلى مبادئ تجريبية واقعية ومحسوسة. ما دامت السعادة من المنظور الكانطي ترتبط بالواقع وبالمعيش اليومي فالإنسان مدعو إلى البحث عن سعادته من خلال العمل والجهد الدائمين والمستمرين.
كخلاصة يمكن القول بأنه على الرغم من أهمية الرغبة في تحصيل السعادة إلا أنها غير كافية؛ ذلك أن تحقيق السعادة التي ينشدها الإنسان لا يقف عند حدود تلبية رغبات الجسد، أو عند إشباع كل حاجات العقل لأن الإنسان كائن متعدد الأبعاد يتداخل فيه ما هو بيولوجي بما هو نفسي وعقلي وثقافي واجتماعي. أي أن الإنسان جسد وعقل وروح وفرد داخل جماعة لها خصوصياتها الثقافية. وكل اختزال للإنسان في أحد هذه الأبعاد لن يفضي إلا إلى تصور ناقص للسعادة.