القولة:ليست حركة العلم حركة في اتجاه امتلاك الحقيقة وتوسيع
نطاقها بل هي معركة من اجل بلوغ الحقيقة مع الصراع ضد الخطا
(من كتاب موران علم ووعي)
تحليلها:
الحقيقة أن فكرة ادغار موران التي بين أيدينا تتطلب منا أن ننظر أولا في طبيعة المعرفة، والمعرفة العلمية بالخصوص ماهي? مامكوناتها? كيف تتطور? ما المحصلة النهائية لكل فعل معرفي ولماذا الحقيقة بالضرورة مركوزة في أحشاء المعرفة العلمية ومستخلصة من البناءات المعرفية ومتوصل إليها انطلاقا من عملية بناء معرفي يتداخل فيه ماهو نظري محض بما هو تجريبي. حتى انه بمقدورنا الابتداء بالإشارة التالية:إن أول الحقيقة هو أخر المعرفة وان أخر المعرفة هو أول الحقيقة ، وطبعا التفكير في مقولة الحقيقة من منظار المعرفة معناه انا نقلل من شان تلك الحقائق التي لم يكن العقل والعلم والتفكير النظري والنقد موجودان وراء عملية إنتاجها وإنشاءها، نقلل من شان المعارف/ الحقائق المؤسسة على أساس غير العقل والواقع من حيث أن تلك المعارف إن صح دعوتها بهذا الاسم لن تعدوا أن تكون مجرد أراء وأحيانا خيالات، وفهوم فاقدة للأساس العلمي الذي يضمن للحقيقة معقوليتها وصرامتها ودقتها وأيضا استمراريتها، لسنا طبعا ضد الحلم أو الخيال أو الدين أو الأسطورة أو الوهم من حيث هي فاعليات يمكن أن تقدم تفسيرات لعناصر وقوانين الظواهر ومبادئها وعلاقاتها إلا أننا نضع هذه الفاعليات في موضعها الطبيعي، وفي منزلتها الصحيحة(التي هي بدون شك اذنى من منزلة المعرفة العلمية من حيث المعقولية والاتساق).
والمعرفة بشكل عام هي بناء يتم وفق جدلية بين الذات والموضوع تحتمل الخطأ والصواب، التقدم والتراجع، إنها ما يبنى منهجيا بالاعتماد على قدرات عقلية ومهارات، ذلك إن فعل المعرفة أن تصير الأنا لا أنا وان تتموضع،هي اغتناء الذات بما تبتنيه وتنشئه وتدشنه،وبما بنته من موضوعات سواء كانت طبيعية أو إنسانية، من هنا ضرورة تعلم كيفية تخارج الإنسان من ذاته في اتجاه الموضوعات، أي ضرورة خروج الذات من ذاتها لبناء معرفة توجه النظر والعمل، إذا كان هذا هكذا فالمقال العلمي الذي هو جزء أساس من أجزاء المعرفة هو الأخر نسق يتكون من مجموعة من التصورات والمفاهيم والعلاقات يقوم الابستيمولوجيون بواسطة منهج علمي دقيق ( اللوجيستكا) بتحليل الانسقة العلمية لاستجلاء أسس كل علم والوقوف على تواابته وأولياته التي ينبني عليها هذا النسق العلمي وذلك في سياق فحصه وبناءه للحقيقة، التي لا يمكن أن تكون قائمة في الفكر الذي في سياق تعامله مع الواقع تمثل معطياته وعناصره والعلاقات القائمة بينها ماجعله يدرك القوانين المتحكمة فيها،الفكر وضيفته التفكير والتفكير حكم والحكم يستلزم معرفة وقديما قالوا الحكم على الشئ فرع من تصوره وهكذا فان مشكل الحقيقة هو أساسا مشكل المعرفة ومشكل المعرفة يدور أساسا حول ثلاث محاور رئيسة:
1) إمكانية قيام معرفة أي هل يمكن للإنسان أن يعرف?
2) طبيعة المعرفة أي هل هي مطلقة أم نسبية?
3) طرقها بأي وسيلة أو وسائل يتوصل الإنسان إلى المعرفة ويهتدي إلى الحقيقة ?
ويمكن صياغة المشكلة التي يعرضها قول موران في الأسئلة الفرعية التالية:
كيف يبني العلم نظريأته ? ما طبيعة هذه الحقيقة عقلية، /تجريبية، موضوعية أم ذاتية، مطلقة أم نسبية،تراكمية أم عبر قطائع?ما أهمية الخطأ في النظرية العلميةاو في البحث العلمي بشكل عام?
تقدم قولة ادغار موران وهو واحد من رموز االابستيمولوجيا ودعاتها الكبار فهمين مختلفين للحقيقة ولحركة العلم ، فهم يرى إن حركة العلم هي بالضرورة حركة في اتجاه امتلاك الحقيقة وتوسيع نطاقها بحيث كما يقول ديكارت نطمع عن طريق تطبيق آليتي الحدس والاستدلال أن نحصل في بقية المعارف والموضوعات غير الرياضية على اليقين نفسه الذي نحصل عليه في الرياضيات إذا ماالتزمنا بداهةالعقل وشرائطه ، وهذا فهم يعرف الحقيقة من حيث هي معرفة عقلية كلية موحدة مجردة ضرورية ومطلقة وأيضا ثابتة نبلغها إذا ما توفقنا في اصطناع منهج علمي متجردين من أهوائنا وتحيزاتنا وليكن هذا المنهج مستقى من الرياضيات وهذا الفهم طبعا ينفيه ادغار موران إن حركة العلم ليست (...).
والفهم الثاني الذي هو حصيلة عملية نقد كبرى أنجزتها الابستيمولوجيا والميتودولوجيا وفلسفة العلم ضد الفلسفة الكلاسيكية وضد النزاعات الدغمائية العقلية والتجريبية معا التي لم تكن تتصور عملية المعرفة تصورا جدليا وتاريخيا، وضد النزعة الوضعية والرومانسية اللتين انحرفتا بالتفكير العلمي في منحيين متناقضين، وما صدق ما يفهمه موران من حركة العلم ومن ثمةالحقيقة أنها أي حركة العلم تختلط فيها المعركة من اجل بلوغ الحقيقة- وعلى هذا إن الحقيقة متوارية، غميسة متناقضة متنازع عليها مادام استعمل مصطلح المعركة أي أنها في أيدي البعض ومنزوعة من أخريين جدلية وتاريخية-مع الصراع ضد الخطأ ومعنى هذا أيضا ان الخطأ ليس كما تتصوره الفلسفة الكلاسيكية مفصول ماهويا وتاريخيا عن الحقيقة من حيث أنها نقيضه ونفيه ومن حيث انه المضاد والمعاند لها إنما الخطأ كما يفهمه موران وبشلار هو جزء من كيان الحقيقة الذي تتحرك في اتجاه تجاوزه وإبطاله عبر عملية ديالكتيكية يكون فيها الخطأ هو ماضي العلم أو قل بادئ الرأي، أو المضمون الإيديولوجي الذي يعمل العلم على نفيه من اجل أن يتحرر ويصوغ نفسه صياغة اكسيومية منهجية تفضي إلى بناء حقيقة أكثر تركيبيا وعمقا وأيضا أكثر فائدة ونفعا من منطلق أنها غير منزوعة الصلة بالواقع أي ليست تجريدا محضا وأيضا غير جزئية ظرفية عينية مادية حسية تاريخية، أي ليست تعينا محضا (التعين بمعنى التطبيق والاختبار والتجريب).
وحتى يكون لهذا النقاش فائدته نقف أولا عند الجزء الأول من القولة ونعمل على فهمها باستدعاء شواهد من الفلسفة الكلاسيكية التي تتطابق معها.
في قولة موران اعتراض شديد على تصور معين يلخصه بقوله ليست حركة العلم حركة في اتجاه امتلاك الحقيقة وتوسيع نطاقها. ونطرح من جهتنا السؤال التالي: من يقول بان حركة العلم حركة في اتجاه امتلاك الحقيقة (...).ولماذا يعتبر هذا القول باطل بنظر موران حتى استعمل في إبطاله صيغة النفي (ليست) وهل هو قول باطل بإطلاق ? وما علاقة هذا بالجدل القائم بين النظرية والتجربة في سياق بناء الحقيقة ?
ندهش لما نعرف إن صاحب الفكرة التي يعترض عليها موران ماهو في حقيقة أمره سوى أب الحداثة ديكارت الذي توهم حقا انه يمكن امتلاك الحقيقة ،وليس ديكارت في الحقيقة ممثلا لنفسه بل هو صورة من الفلسفة الدوجماتيقية عن الحقيقة وعن حركة العلم فما هي أقوال هذه المدرسة بخصوص جدل النظرية والتجربة المفضي إلى بناء حقيقة هي بنظر هؤلاء كلية مطلقة مجردة ضرورية وموحدة?
تعني النظرية في التحديد الاصطلاحي التأمل العقلي فتصبح نسقا من المبادئ والقوانين ينظم معرفتنا بمجالات خاصة، ويتضمن هذا النسق بناءا منطقيا له مكوناته ويخضع لنظام فرضي استنباطي يسمح للعالم بانتقال من عنصر إلى أخر وفق ترتيب صارم.، أما التجربة فتدل على مجموع المعارف والخبرات التي يكونها الإنسان في علاقته المباشرة بالواقع كما تعني ،اكتساب قدرة على الإتقان لكنها بالمعنى العلمي القيام بإعادة إحداث ظاهرة تمت ملاحظتها في شروط محددة بهدف دراستها والوصول إلى بناء معرفة حولها بحيث تشكل التجربة الوسيلة الأساسية التي يلتجئ إليها العالم لمعرفة القوانين المتحكمة في الظواهر .
من نافل القول أن التحديدات السابقة تبين كيف يتم فهم النظرية من حيث هي تجريد ذهني امتن وأوسع من كل ماهو تجريبي واقعي، وتظهر التجربة باعتبارها مجالا لحضور الملموس والواقعي والسؤال الذي ينبثق مما سبق بأيهما تتعلق الحقيقة هل بالعقل لوحدة من حيث انه منشئ الحقيقة ومبدعها ومن حيث أنها (الحقيقة) موجودة كبداهة من بداهاته أي موجودة كقبلي فيه نحتاج فقط إلى توظيف منهجية دقيقة فعالة تقينا الزلل وتضمن حسن استعمال العقل فنصل إليها (الحقيقة) وبالتالي يصبح الجزء الأول من قالة ادغار موران من أن حركة العلم هي حركة في اتجاه امتلاك الحقيقة وتوسيع نطاقها صحيحا ويصبح اعتراض موران غير ذي معنى? أم بالتجربة لوحدها من حيث هي المفرزة للحقيقة كما تفرز الكبد الصفراء من منطلق أن العقل صفحة بيضاء لا يوجد فيه إلا من تمده به التجربة والحس فيكون أيضا الجزء الأول من مقول موران صحيحا واعتراضه هو الباطل?
في الاستعمال العام ،الدارج نطلق كلمة دوجما تيقي على المتعصب لاارائه الذي لا يقبل المناقشة فهو يعتقد انه يمتلك الحقيقة لذلك فلا يحيد عن موقفه ولا يتزعزع (امتلاك الحقيقة وتوسيع نطاقها...) إلى جانب هذا هناك مايمكن تسميته الدوجماتيقية المادية وهي نظرة رجل الشارع الذي يعتقد أن الحقيقة هي كما يرى ويدري، فالأرض عنده ثابتة لأنه لايراها ولا يشعر بها تدور.
والنزعة الدوغماتيقية( التقنية التوكيدية ) في الفلسفة هي على العموم النزعة التي يرى أصحابها ان في إمكان الإنسان الوصول إلى الحقيقة كاملة أو على الأقل جملة من الحقائق التامة، معنى ذلك أن أصحاب النزعة التوكيدية هذه يسلمون سلفا أن الإنسان يستطيع أن يكسب معارف صحيحة لا من الأشياء كما تظهر بل حتى عن الأشياء على حقيقتها أي الأشياء في ذاتها.
واضح أن هذه النزعة تفترض وجود الحقيقة أولا كما تثق بالعقل وغيره من أدوات المعرفة كالحواس ثقة تامة بحيث أن قدرة الإنسان في في نظرهم على اكتساب المعرفة والاهتداء إلى الحقيقة قدرة لا تحدها حدود ولا تقف عند نهاية.، فالتجربة مثلا التي هي إجراءات مقصودة يبدعها العالم بحيث تخضع موضوعه للمسائلة وإذا ما أنجز مسائلته للواقعة التي يدرسها بطريقة ناجعة فهو إذن يملك جواب أو أجوبة عن الأسئلة التي طرحها، ذلك أن المنهج التجريبي بطبيعته يتوخى تحقيق الدقة او الموضوعية في التعامل مع الظواهر المدروسة، وبهذا دعا البعض العالم المجرب أن يعمل على أن ينقل بأمانه مجموع الوقائع الموجودة في الطبيعة إذ غالبا ما يجد العالم التجريبي نفسه أمام اختبار فرضيتين متعارضتين واحدة منهما فقط هي السبب في حدوث الظاهرة فتؤكد التجربة العلمية واحدة منهما وتكذب الأخرى .،وطبعا لا يحتاج العالم دائما إلى إجراء تجاربه في المختبر فمعرفته المسبقة بالوقائع وإدراكه للمبادئ النظرية التي ينطلق منها يسهلان إجراء التجربة في ذهنه وليس دائما في الواقع .،من هنا يلتجئ العالم إلى التجربة الذهنية الخيالية عندما يكون مستحيلا عليه القيام بتجارب على موضوعات تند عن الملاحظة العلمية المباشرة .
نفهم مما ذكرنا أن هناك فلسفات تعرف الحقيقة بحدود وأوصاف الوحدة ،الثبات، و الاستقرار الكلية إذ ان مهمة العقل تنحصر في تنظيم التجربة وترييضها أو العمل بمعزل عنها في إطار بنية العقل التقليدية التي تقوم على مجموعة من القواعد والمبادئ الثابتة، العقل هنا بمعناه الديكارتي المنغلق على ذاته يقول ديكارت: انه من الأولى عدم البحث عن الحقيقة بصدد أي شئ كان بدلا من البحث عنها بدون منهج والمنهج هو قواعد البحث العلمي المؤدية إلى الحقيقة بواسطة العقل لا الرأي لان الرأي في المعرفة العلمية عائق لكونه لا يفكر.
يذهب صاحب مقالة في المنهج وغيره من العقليين (أرسطو قبله ابن رشد توما الاكويني...) وفق الفكرة التي تقول انه من المؤكد والمضمون الوصول إلى الحقيقة الكلية التي لا يمكن هدمها أو دفعها مادام هناك منهج متبع (لذا أرسطو وابن رشد البرهان) فكل من يتبع المنهج / البرهان أو الجدل الصاعد كما لدى أفلاطون أو التجربة وشهادة الحسن كما لدى لوك سيمتلك الحقيقة لان المنهج هو تقنية الحقيقة التي يمكن أن يستعملها الجميع بأمانة ودقة، وقد اقتصر ديكارت على أربع قواعد منهجية ابستيمية الأولى منها مستندة إلى مبدأ الحدس والثلاث الأخريات مستندة إلى مبدأ الاستنتاج، البداهة التحليل التركيب المراجعة.
نركز على ديكارت من اجل انه خير من يقرب الجزء الأول من تصور ادغار موارن أو قل من التصور الذي لا يقبله ادغار موران حتى انه يمكننا أن نقول إن نقد موران موجه في حقيقة أمره إلى تصور ديكارت أساسا ثم بالتبعة إلى كل من لا يستحضر التاريخ، الجدل والصيرورة، التناقض، النفي ،البرهان بالمعنى العصري له سوسيولوجيا الأفكار في فهمه لقضايا الإنسان والعالم وعلى رأسها قضية العلم/ الحقيقة.
لقد تابع اغلب الفلاسفة الكلاسيكيين منهج ديكارت في اعتماد معيار البداهة العقلية لإثبات الحقيقة (كما تابع هو انسلم من قبل والغزالي في مستوى من مستويات تفكيره) والبداهة تعني كما تبنى اسبينوزا إن الحقيقة معيار ذاتها فهي تظهر بذاتها مثل النور ولا تحتاج إلى مايكشفها أو يؤكدها بل هي التي تكشف كل شئ، والبداهة ليست هي ما تبادر توا إلى الذهن ،بل هي الحقيقة المفروضة على الذهن. من هنا يعتقد الإنسان أن الحقيقة تستطيع أن تفرض نفسها بنفسها وان قوتها( انسجامها واتساقها الداخلي ) كافية لتبديد جميع الأخطاء والأوهام.
لقد أراد ديكارت من الشك أن يكون وسيلة لتحرير العقل من الأوهام ومن الآراء والأحكام التي علقت به دون أن يتناولها بالفحص والنقد ، قال في كتابه التأملات: قررت أن أحرر نفسي مرة في حياتي من جميع الآراء التي أمنت بها قبلا وان ابتدئ الأشياء من أسس جديدة .
لقد وصل ديكارت عن طريق الشك إلى حقيقة أولى يقينية (امتلاك الحقيقة) إلى الكوجيتو انا أفكر إذن أنا موجود ومن هذه الحقيقة انطلق ليثبت وجود الأجسام ومن بينها جسمه هو ثم ليثبت وجود الله،وجوده كشئ يفكر،ثم ،وأخيرا ليثبت وجود الأجسام ومن بينها جسمه هو وهكذا انطلق ديكارت من الشك لينتمي إلى الإيمان المطلق بالعقل الصافي وبأحكامه المبنية على نقاوته وصفائه ووضوحه، وليس يختلف الناس في أحكامهم إلا لأنهم لا يحسنون استعمال عقولهم ،أما العقل فواحد عند جميع الناس بل هو اعدل قسمة بين الناس.
فما الوسيلة إذن التي من شانها أن تمكن الإنسان من استخدام عقله استخداما حسنا ? يجيب ديكارت لكي يتسنى لنا أن نضفي على علم أو معرفة يقينا لا مجال للشك فيه يجب أن لا نشتغل اولا بالمعاني الواضحة المتميزة، وان نرتب جميع معانينا أي ننظمها في نسق خاص بحيث، يكون كل معنى منها مسبوقا بجميع المعاني التي يستند إليها سابقا، ولجميع المعاني التي تستند إليه، وليكن شعارنا دائما في جميع أفعالنا وأحكامنا العقلية هو البداهة والوضوح، البداهة والوضوح يقتضيان منا أن نطرح جميع الأفكار الصادرة إلينا من السلطات أيا كانت فلسفية أو اجتماعية أو سياسة كما تتطلبان منا الابتعاد عن تلك الآراء التي يصفق لها الناس.، إن إجماع الكثرة من الناس لا ينهض دليلا يعتد به لإثبات الحقائق التي يكون اكتسابها بله الحدس بها ،وهكذا فان جميع الأفعال الذهنية التي نستطيع بها أن نصل إلى معرفة الأشياء دون أن نخشى الزلل عبارة عن فعليين اثنين هما : الحدس والاستنباط ، والحدس هو الرؤية العقلية المباشرة التي يدرك فيها الذهن بعض الحقائق (من دون ان يمر بعمليات التحليل والتركيب ) والتي تدعن لها النفس وتوقن بها يقينا لا سبيل إلى دفعه.، أما الاستنباط فهو يقوم على الحدس انه فعل ذهني بواسطته نستخلص من شئ لنا به معرفة يقينية نتائج تلزم عنها، هو عملية ذهنية ننتقل فيها من المعلوم إلى المجهول(انظر كتاب فصل المقال لابن رشد بشرح الأستاذ محمد عابد الجابري)، انه نوع من الحدس ولكنه نوع أعلى نوع مركب انه في الواقع سلسلة حدوس،ومتى أقمنا أحكامنا على أساس من الحدس والاستنباط فإننا سنتوصل قطعا إلى حقائق يقينية لا يمكن للشك أن يرقى إليها.
إن الحقيقة عند ديكارت موجودة والوصول إليها ( امتلاكها وتوسيع نطاقها) ممكن جدا ولكن بشرط أن نحسن استخدام عقولنا ونعتمد عليها وحدها.
يقول ديكارت لم أكن مقلدا للارتيابيين الذين لا يشكون إلا لمجرد الشك وإنما قصدت إلى التثبت والى تجنب الأرض الرخوة والرمل المتحرك لكي أصل إلى الصخر والصلصال.،
إذا كان ديكارت يدعونا إلى تحرير عقولنا مما علق بها من أوهام وإذا كان يعدنا ان نحن فعلنا ذلك بالوصول إلى الحقيقة كاملة فان كانط يدعونا إلى نقد عقولنا ومعرفة المبادئ التي تقوم عليها أحكامنا (الحقيقة أن نزعة كانط ماهي في نهايته الأمر سوى ديكارتية مفتوحة ديكارتية نقدية ) لنتوصل في الأخير إلى حقائق (امتلاك الحقيقة) وقد سميت فلسفة كانط، بالفلسفة النقدية لأنها تقوم على نقد العقل.
يفرق كانط بين نوعيين من العقل أو قل التعقل العقل النظري وبه تكتسب المعرفة العقل العملي وهو خاص بحياتنا العملية الأخلاقية بالخصوص، نذكر بانا نبني تحليلاتنا مستحضرين ديكارت كانط بوصفهما خير من تكلم عن حقيقة مطلقة كلية مجردة لا تاريخية ولا جدلية ولذلك تعرضا لنقد ضخم من طرف الفلسفات الجدلية والإيديولوجيات الثورية ممارسة وفكرا (الهغيلية واليسار الهيغيلي فيورباخ ماركس اللذين عملا على تنسيب الحقيقة أي إعادتها إلى التاريخ والصيرورة) ثم الفلسفات العلمية التي باسم العلم وباعتماد مرجعيته من حيث هو معيار كل حقيقة رفضت فكرة امتلاك الحقيقة أو ما دعاه فلاسفة العقل بالحقيقة الكلية النهائية.
قضيتنا إذن هي عرض التصور التقليدي الذي يلخصه الجزء الأول من قوله موران "إن حركة العلم... وتوسيع نطاقها" ثم التعقيب عليه ونقده باستعمال فلسفات العلم والنزاعات المشككة( نيتشه فرويد) في قدرة العلم /العقل/ البداهة ان تقدم تفسيرا نهائيا متكاملا لمشكلات الإنسان والعالم بهذا نكون قد عرضنا مضمون القولة وبينا أبعادها ولكن بطريقة غير مباشرة ولعلها الطريقة الوحيدة التي تضمن فهما موضوعيا لقولة موران.
كيف نتوصل إذن بواسطة المعقول النظري من اكتشاف المعارف والوصول إلى الحقيقة?
نشير أيضا إلى أن الموقف الكانطي يغنينا عن مباشرة القول في الفلسفة التجريبية بسبب انه يلخصها ويدمجها في نسقه بحيث انه يصح إسقاط هذه الفلسفة من تاريخ الفلسفة دون أن يحدث ذلك أي خلل في هذا التاريخ.
إن نقطة البدء في كل ما لدينا من معارف هي التجربة الحسية لان ما تبنيه القوى العارفة فينا إنما هو الموضوعات التي ثؤتر في حواسنا، ولكن هذا لا يعني أن كانط يرى- مثل الحسيين التجربيين – ان كل معارفنا مستخلصة من التجربة وحدها بل هناك معرفة أولية مستقلة تمام الاستقلال عن التجربة والحس وسابقة عليها وهذه المعرفة الأولية قبلية ضرورية بمعنى أنها ذات نتائج حتمية، كلية بمعنى أنها عامة لا تحديد فيها ولا تخصيص ولا استثناء وهذه المعرفة الأولية ليست هي تلك الأفكار الفطرية أو ذلك النور الفطري الذي رأيناه عند ديكارت بل إن المعرفة الأولية أو المبادئ القبلية الكانتية ما هي إلا عبارة عن شروط قائمة في العقل فهي ليست معارف بالمعنى المتداول وليست أفكار جاهزة أو حقائق أولية وإنما هي شروط ضرورية كلية (مقولات)إذ ا توفرت معها معطيات حسية أو حدوس تجربية تكونت لدنيا من ذلك كله معارف علمية حقة.
هكذا نرى أن كانط لا يعتمد على التجربة وحدها ويغفل العقل كما يفعل التجريبيون ولا يعتمد العقل وحده ويغفل التجربة والحس كما يفعل المثاليون وإنما يجمع بينهما جمعا منظما منسقا ( ومن هنا أي من التنظيم والتنسيق والسستام ظهرت البنيوية ولعلنا نقول أن كانط أب بمعنى ما للبنيويين انظر الجذور الفلسفية للبنائية لفؤاد زكرياء )وقد أمكن لكانط أن يفعل ذلك انطلاقا من نقد العقل وتحديد معارفنا، أحكامنا ذلك إن تحليل أحكامنا أي هذه العمليات العقلية التي نقوم بها والتي تحتمل الصدق والكذب سيمكننا من معرفة نوع الحكم والأحكام التي يعتمد عليها العلم للوصول إلى حقائق يقينية ثابتة لا يتسرب إليها الشك خصوصا إن هناك علمان هما الرياضيات والطبيعيات ( الفيزياء) توصلا إلى حقائق كثيرة يقينية لا يرقى إليها الشك.
وعلى هذا فالمعرفة تتألف من عنصريين ما ينقله الحس إلينا: المادة الغفل ، وما هو موجود في عقولنا من مبادئ أولية (الصورة) المادة تمثل وجودا خارجيا قائما في العالم الخارجي أما الصورة فهي تمثل مبدأ أوليا باطنا والمهمة النقدية للمعرفة هي العمل على تبيان ما يرد إلينا من الخارج وما نضفيه نحن على المعطيات الحسية بما لدينا من صور أولية سابقة على التجربة.
ويمضي كانط في البحث في هذه الصور أو المبادئ الأولية فيجد أن في عقولنا صورتين أوليتين نضفيهما على مدركتنا الحسية ونجعلهما بمثابة إطار لها، هاتان الصورتان الأوليتان هما الزمان والمكان.، فالمكان هو الصورة الأولية أو الإطار لكل معرفة نتوصل إليها بالحواس، والزمان هو الصورة الأولية الإطار لكل معرفة نتوصل إليها بالشعور أو الحساسية الداخلية .،ويمضي كانط في البحث في الصور الأولية والمعاني الذاتية الرابطة بين الظواهر المعروضة في الزمان والمكان ربطا كليا ضروريا فيقول ان الأشياء عندما يتم إدراكها حسيا لا بد أن تشكل عقليا بواسطة تلك الصور الأولية أو المعاني الذاتية التي هي عبارة عن قوالب عقلية تصب فيها الأشياء فتجعلها معقولة وتخضعها لفاعلية العقل وهذه القوالب يسميها كانط مقولات.
إن الطريق الصحيح إذن للوصول إلى المعرفة، إلى الحقيقة هي طريقة التجربة والعقل معا لكن ما نوع الحقيقة التي تتوصل إليها بهذا الطريق الصحيح? هنا يلح كانط على أن نفصل بين الأشياء كما تبدو لنا الظواهرphénomènes وعالم الشئ في ذاتهNoumènesوالذي يمكن للإنسان أن يدركه هو عالم الظواهر فقط لأنه هو وحده موضوع التجربة الحسية التي هي – كما رأينا – نقطة البدء في كل معرفة نتوصل إليها أما عالم الشئ في ذاته فهو عالم مغلق لا يمكن للعقل البشري أن يطرق بابه أنها المتعالي، ومحاولة ولوج هذا العالم محاولة عقيمة فاشلة وإنما أصبحت الميتافيزيقا عقيمة وأضاعت الطريق لا شئ إلا لكونها تحاول أن تقتحم هذا العالم المغلق عالم الشئ في ذاته، في حين أن الإنسان لا يمكنه أن ينفذ إلى باطن الشئ أي لا يمكنه التوصل إلى الحقيقة المطلقة بحال من الأحوال(ومحاولة كانط نفي معرفتنا بالشئ في ذاته سوف تجد نقدها لدى فخته الذي تحدث عن تحول الأنا إلى لا أنا ومن ثم قدرة الأنا بهذه الصفة ان يصل إلى هذا المتعالي المحتجب، وستجد نقدها لدى هوسرل الذي تبقى الظواهر معلقة ما لم نصل الى أسبابها وعللها الأولى ، انظر أزمة العلوم الاروبية كما أسس لذلك هوسرل) انما يستطيع الإنسان معرفته هو عالم الظواهر عالم التجربة والحس الذي يمد عقلنا بموضوعات تثير فيه تلك المعاني الأولية التي تجعل من المعرفة معرفة ضرورية كلية ولكنها ستبقى دائما معرفة نسبية لأنها لا تتناول باطن الشئ .
ولكن هل صحيح ما دهبت اليه الفلسفة الكلاسيكية من انه يمكننا امتلاك الحقيقة وتوسيع نطاقها بحيث نظفر بحقائق في التاريخ والميتافيزيقيا والفن شبيهة بالتي نحصل عليها في الرياضيات أو الفيزياء?
مبدئيا إذا كان هذا صحيحا فاعتراض ادغار موران وأمثاله باشلارو توماس كون لا مبرر له
(ليست حركة العلم...) وإنما حركة العلم تختلط فيها المعركة من اجل بلوغ الحقيقة مع الصراع ضد الخطأ.
انتقال مناط الحقيقة المطلقة من العقل إلى التاريخ.
يقول هيجل إن دعوة فلسفة الأنوار إلى العقل كانت ضرورية،– لابد أن نعترف بصلاحية النقد الموجه إلى أنظمة عنيفة فقدت مقامها في وجدان الحركة المتنامية عند الإنسان أنظمة صارت تعتمد فقط على سبات الوعي ولم تعد توافق الروح الذي أنشاها – إلا أن العقل /الحقيقة في مفهومها كان مجردا وفارغا من أي مضمون ( المقولات) فهو صحيح صحة تامة مادام مجردا أما إذا طبق على الواقع فانه يعطي الدليل الفوري على عجزه لان المجرد لا يعطي مقياسا للتعامل مع الواقع.
انطلاقا من نقد عقلانية فلسفة الأنوار ميزت الفلسفة الألمانية و هيجل خاصة بين العقل / الحقيقة المجرد القياسي الصوري ألتجزيئي الذي يصلح للفهم فقط وبين العقل المشخص التركيبي المبطن في الأشياء والذي يستحق أن يسمى حكمة ، إن الأنوار تفرض عقلها على الواقع والتاريخ فتهدم الأول وتعجز عن إدراك الثاني أما الفلسفة الألمانية فإنها تستخرج عقلانيتها من الواقع والتاريخ.
تعتبر هذه أول محاولة لتازيم الفهم التقليدي للحقيقة بطرح فهم جديد لها ينظر إليها في حالة تطور ونمو أي في صيرورتها لا في حالة جمود وسكون، وبهذا يكون هيجل قد دفع الفلسفة دفعا لان تفكر في الحقيقة تفكيرا تاريخيا بدل ذلك التصور الماهوي الجوهراني الذي أمات الحقيقة أو على الأقل افقدها بريقها من حيث هي معشوقة الإنسان وقصده الذي ناضل من اجله منذ بدا يفكر، يشعر يحس ويتألم.
لكن ماذا يقول العلم المعاصر بصدد مشكلة الحقيقة وهل صحيح أن حركة العلم في المحصلة النهائية ماهي إلا حركة تختلط فيها المعركة من اجل بلوغ الحقيقة مع الصراع ضد الخطأ، أما بلوغ وبناء حقيقة مطلقة يقينية متعالية كما فكر في ذلك ديكارت وأمثاله فهيهات لقد انطوى زمن بناء الحقيقة المطلقة إلى غير رجعة لما أدرك الإنسان خواء البداهة التي عاش بحسبها أزمنة متطاولة حتى لم يعد لها مبرر، يتضح انه لم يعد هناك بداهة جاهزة ضرورية منطقية يركن إليها الجميع لابد إذن من امتلاك بداهة جديدة وهذا لا يكون إلا بالقفز فوق حاجز معرفي حاجز تراكم المعلومات التقليدية لا يفيذ فيها أبدا النقد الجزئي بل مايفيذ هو طي الصفحة القطيعة المنهجية.
إن تأكيد التجربة للفرضية لا يعني وجود حقيقة يقينية في العلم ، لا وجود لعقل معزول لأنه لا يكتسب قيمتة من ذاته فقط بل من عمله الإجرائي داخل عالم التجربة، إن العقل في العلم الحديث لا تنحصر مهمته في تنظيم التجربة وترييضها بل ينظم ذاته وهو يتخلى تدريجيا عن بنيته التقليدية، لم يعد العقل هو نفس العقل الديكارتي المنغلق على ذاته بل أصبح ذلك العقل الذي يتطور بتطور عالم التجربة ذاته كما أن التجربة لم تعد كما تصورتها النزاعات الاختبارية تتحكم في مسارات البناء العقلي والنظري للمعرفة العلمية وإنما البحث العقلي والنظري في نظام هذه التجربة هو مايبرر اليوم تدخل العقل نظريا وتطبيقيا تستند العقلانية العلمية إذن إلى نشاط حر للعقل الرياضي الذي يبدع المفاهيم والمبادئ المكونة للأنساق النظرية للعلم.
لايمكن فهم عمل العلم الحديث وإدراك قيمته المعرفية والفلسفية إلا في ضوء علاقة جدلية بين العقل والتجربة وبين العقل والواقع.، إن النظرية الفيزيائية هي نسق من القضايا الرياضية المستنبطة من عدد قليل من المبادئ غايتها أن تمثل وبصورة دقيقة مجموعة القوانين التجريبية، إنها بناءات حرة عقلية ،قابلة إن تتجدد وتتحول إلى ما لا نهاية.
لا يقبل باشلار أي مبدأ عقلي ولا أية فكرة مسبقة ولكنه مع ذلك يعتقد أن العقل قادر على أن يقوم انطلاقا من التجربة بصياغة منظومة للمعرفة يتحقق فيها الانسجام تدريجيا بفضل التقدم العلمي والمراجعة الدائمة (معركة من اجل بلوغ الحقيقة) والتي يفرضها العلم على أهله فالعلم يغذي العقل وعلى هذا الأخير أن يخضع للعلم الذي يتطور باستمرار.
إن الفلسفة المؤسسة على العلم الحديث والتي ترفض الآراء العامية والتجربة البدئية والوصف المبني على مجرد الخبرة إنها الفلسفة التي تقول لا لعلم الأمس ولا للطرق المعتادة في التفكير، الواقع انه من الواجب أن ننبه دوما إلى أن فلسفة النفي (والتي هي فلسفة بشلار وقبله هيجل وربما سبينوزا مع الاحتفاظ بالفروق والاختلافات الفكرية والمنهجية الموجودة بين هؤلاء الثلاثة التي أساسها اختلافات موضوعية تجعل من الصعب قياس هذا على داك ولكنها تجعل مقبولا اعتبار هذا تطويرا لفكر ذاك وتقدما به ) ليست من الناحية السيكولوجية نزعة سلبية ولا هي تقود إلى تبني العدمية إزاء الطبيعة فهي بالعكس من ذلك فلسفة بناءة سواء تعلق الأمر بنا نحن أوبما هو خارج عنا ،فلسفة ترى في الفكر عامل تطور وتجديل التفكير (تطبيق الديالكتيك عليه) معناه الرفع من قدرته على إنشاء الظواهر الكاملة إنشاءا علميا ،وعلى إحياء جميع المتغيرات المهملة التي كان العلم والفكر السادج قد أمهلها في الدراسة الأولى.
لم يعد الواقع حكما ولا شاهدا بل أصبح متهما ولا بد من أن نتمكن من إثبات انه يكذب، فالمعرفة العلمية هي دوما إصلاح لوهم واكتشاف لخطأ .
نخلص من كل ما ذهبنا إليه ان تطور العلم حقيقة، لم يكن يوما ما امتلاكا للحقيقة وسيطرة عليها ومن يقول ذلك يفكر انطلاقا من عقل توتا ليتاري غير نقدي، ولا تاريخي أما من يرى الحقيقة بصفتها صراع ضد الخطأ والوهم وأنها منطقة صراع أو محل الصراع تصنع وتهيأ لأجهزة والوسائل لحمايتها وتمريرها وبنائها، وبالتالي هيمنتها من حيث أنها محاولة معرفية لفهم العلاقات التي تحكم العالم والتاريخ فهو من يفهم الحقيقة فهما جدليا وتاريخيا أو قل فهما اجتماعيا وتاريخيا وهو الفهم المطلوب ثتبيته خصوصا لدى الشعوب المتأخرة تاريخيا وهذا طبعا عكس ما يقوله ليفي سترورس الذي ذهبت بنيويته إلى تقديم نمودج معرفي أو إطار عام تلتقي عنده كافة العقليات . وهاك جذول يلخص ماذهبنا إليه.
نمطان
علم غليلو، نيوتن
ثورة علمية علم اليوم
ثورة مضادة
I П I П
افلطوني ارسطى نمط
غليلو / نيوتن عهد جديد
استبطان استعداء
علم
واجب
الوجود
كم
مكان
معدود
كيف
زمان
غير معدود
الطبيعة افلاطوني
ماهية
دوام
المحض
المنتظم
الضروري
الطبيعة ارسطي
عرضى
تغير
المختلط
المعقد
المحتمل
ملاحظة:
وترى معنا أن علم اليوم يتوجه توجها أفلاطونيا لا أرسطيا ، وذلك لان الفكر الأرسطي والمنطق بالخصوص بلغ من العقم حدا جعله عائقا أمام التطورات العلمية الحديثة ومن ثم التمس العلم الحديث الرداء الأفلاطوني لأنه رداء الاحتمال والممكن وليس رداء القطعي والضروري.
الجزء الثاني من مقولة ادغار موران يطرح قضية تاريخ العلم ما هو مفهوم تاريخ العلم? وما هي خاصيته ? كيف تطرح مسالة التقدم في مجال العلوم هل التقدم هو تراكم الحقائق أم هو تصحيح أخطاء? وإذا كان تاريخ علم ما هو تاريخ تصحيحه لاخطاءه فلماذا نقع في هذه الأخطاء، وحين ينشا علم من العلوم ما الذي يكون قد حصل وأدى إلى هذه النشأة ? لنأخذ الفيزياء الكلاسيكية مثال ماهو الفعل الذي كان في أساس نشأتها وهل كانت هذه النشأة غربية أصيلة?
طبعا الإجابة عن مثل هذه الأسئلة يحتاج إلى وقت وزمن أوسع من هذا الموجود لدينا ولذلك فانا نكتفي فقط بطرح السؤال منوهين إلى أن الإجابة عليه تبقى ممكنة في شرط العلم الحديث لا في شرط الفلسفة التقليدية.
إن الموضوع لا يمكن أن يكون هدفا مباشرا إن التوجه نحو الموضوع لا يكون في الأصل موضوعيا فلا بد لنا أن نقبل القطيعة بين المعرفة الحسية والمعرفة العلمية فمع كون العلم كاشفا وموضحا مغنيا كاسحا ظافرا فانه يطرح مشاكل متزايدة الخطورة فيما يتعلق بالمعرفة التي ينتجها، إن الفكر العلمي عاجز عن التفكير في حالة مادام قائما على الاعتقاد بان المعرفة العلمية هي انعكاس موضوعي خالص للواقع.، ألا تحتمل هذه المعرفة العلمية في ذاتها البرهان التجريبي معطيات ثم التحقق من صحتها وصدقها بالملاحظات والتجارب والبرهان المنطقي ا(تماسك النظريات تماسكا منطقيا )إن المعرفة العلمية والحالة هاته تفلت من كل نظر علمي مادامت هي نفسها هذا النظر العلمي إن العلم بوصفه كاشف و موضح ليس في حاجة إلى كشف و إيضاح، والحال أن النظريات العلمية مثلها مثل جبال الجليد في البحار القطبية فيها جزء ضخم منغمر ليس علميا ولكنه ضروري للتطور العلمي في هذا الجزء المنغمر تقع النقطة العمياء في العلم الذي يعتقد أن النظرية العلمية هي انعكاس للواقع إن ما هو علمي خاصيته انه لا يعكس الواقع بل يترجمه إلى نظريات متغيرة قابلة للتكذيب.
إن تاريخ المعرفة العلمية ليس فقط تاريخ تراكم وتوسع، انه أيضا تاريخ التحولات والقطائع والانتقالات من نظرية إلى أخرى فالنظريات العلمية فانية وهي فانية لأنها علمية لذلك فان المعرفة العلمية تتقدم في مستواها التجريبي بمراكمة الحقائق وفي مستواها النظري بإلغاء الأخطاء وهكذا فحقل العلم مفتوح على الدوام لا لتتصارع فيه النظريات وحدها بل تتصارع فيه كذلك مبادئ للتفسير أي نظرات إلى العالم ومسلمات أو مصادرات ميتافيزيقية.
هكذا بعدما أثبتنا طبيعة التحول التي يعرفها تاريخ العلم والتي يصر موران على إذكائها نقول إن هذا التطور لا يجب أن يخفي عنا معطيات تتصل بفهم وتفسير الظاهرة الإنسانية التي هي عالم خاص له طبيعته الخاصة وإشكالاته المتفردة كما لا يجب أن يخفى أن العلم مهما حقق من تطور ونمو يبقى محكوم بمحدودية وقصور منتجه الذي هو أولا وأخيرا الإنسان.