المحور الأول: وجود الغير
إنه لمن المستحيل أن يحقق الشخص قيمته ووجوده إلا بوجود الغير. وعليه، فإن الغير يعد ضرورة أنطلوجية ومعرفية وأخلاقية يستطيع من خلاله الأنا أن يعي ذاته. لكن التساؤل الذي يفرض نفسه على الذهن ونحن بصدد تناول هذا المحور هو: هل وجود الغير تهديد للأنا أم أنه شرط وجوده؟
للإجابة عن هذا الإشكال، يمكن تمييز موقفين متعارضين:
1-1- الموقف الأول: وجود الغير ضروري لوجود الأنا.
يتلخص هذا الموقف في أن وجود الغير ضروري لوجود الأنا، بل لمعرفتها بنفسها، ما دام الغير هو الوسيط الضروري الذي تثبت من خلاله الذات وجودها في العالم وتعي ذاتها، لأن حرية الذات رهينة بوجود الغير الذي يحاول تشييئها واستلابها من خلال نظرته إليها. ومن ثم، فالحرية ليست معطاة، بل تكتسبها الذات عبر تعاليها على وضعية العبودية التي يفرضها وجود الغير.
ومع ذلك، فإن وجود الغير شرط وجود الأنا باعتباره حرية. من هنا يمكننا القول إن الغير ليس موضوعا، بل ذات تتمتع بكل مقومات الإنسانية. إنه الشبيه والمماثل للأنا. لكن كل منهما يريد تشييء الآخر والنظر إليه كموضوع أو كشيء من أشياء الطبيعة. وهذا ما يذهب إليه الفيلسوف الوجودي جون بول سارتر في كتابه " الوجود والعدم". فهو يعتبر في الفصل الأول من القسم الثالث من الكتاب والذي يحمل عنوان الوجود من أجل الآخر، يعتبر أن نظرة الغير إلى الأنا تجعل هذا الأخير يفقد حريته وتلقائيته، ويقول في هذا السياق: "الجحيم هم الآخرون". ويقول أيضا: " إن كوني مرئيا من (طرف الغير) يشكلني بوصفي موجودا بون دفاع عن حرية ليست هي حريتي". ورغم ما تعانيه الذات من وضعية استلاب وعبودية أمام الغير، فإن وجوده شرط ضروري لوجود الذات. ويقدم في هذا السياق مثال الخجل الذي هو حالة شعورية إزاء شيء ما الذي هو الذات. وبالتالي فالخجل يحقق علاقة باطنية بين الأنا والأنا ذاته، إنه إذن مظهر من مظاهر وجودي. ومع ذلك، فالخجل ليس ظاهرة تأملية ذاتية فحسب، بل إنه خجل أمام أنا آخر، ما دام هذا الأخير هو الوسيط الذي لا يمكن للذات أن تحقق وجودها وأن تقي نفسها في غنى عنه. يقول سارتر: " أنا خجول من نفسي بقدر ما أتبدى للغير"، ومن ثم فالخجل هو خجل من الذات أمام الغير.
1-2- الموقف الثاني: وجود الغير تهديد للذات ونفي لها.
يرى هذا الموقف أن وجود الغير تهديد للذات ونفي لها ما دام الوجود مع الغير في الحياة اليومية المشتركة يفرغ الذات ويفقدها خصوصيتها وتميزها، ومن ثم يفقد الشخص هويته ووجوده الأصلي " الدازاين" لأن "الموجود" أي وجود الإنسان بما هو إنسان يوجد تحت رحمة الغير، وليس له وجود مستقل، باعتباره شبيها ومماثلا لجميع الناس وكأنه لا أحد. فالموجود مع الآخرين من الناس يدل على الاختفاء وذوبان الفرد في حياة الجماعة. بل أكثر من ذلك فوجود الذات مع الغير يقوي من سلطة هذا الأخير. لذلك، يمكن القول، مع مارتن هايدجر في كتابه الوجود والزمن، إن الوجود مع الغير في المعيش اليومي يهدد الموجود ويفقده خصوصيته وكينونته.
مما تقدم يمكن أن نخلص إلى أن مسألة "وجود الغير" شكلت إشكالية فلسفية في الفكر الفلسفي الحديث والمعاصر نتجت عنها أطروحات وتصورات فلسفية متناقضة. فالغير، من جهة أولى، مجرد موضوع أو شيء (جسد) قابل للدراسة والتحليل مثله مثل سائر الموضوعات الطبيعية. ومن جهة أخرى، فهو ذات أو أنا تتميز بالوعي والحرية والكرامة وغيرها. كما أن وجود الغير قد يشكل نفيا للذات وإثباتا لها في نفس الآن، ما دام يتسبب في توليد الخجل بالنسبة للذات، ويحد من حريتها وتلقائيتها، وفي نفس الوقت هو شرط وجود الأنا، ما دام يمكن هذا الأخير من إثبات ذاته وتحقيق وجوده. فإذا كان الغير موجودا، فهل يمكن معرفته؟ وما السبيل إلى هذه المعرفة؟ وكيف تتم وبأي طرق؟