عندما يستكمل الإنسان عملية الوعي بذاته، يكتشف أنه ليس وحيدا في العالم بل إنه يحيا بجانب الغير أي كل ذات إنسانية أخرى تقاسمه نفس المقومات من وعي وإرادة وحرية بالرغم من أنها تختلف عنه في بعض الخصوصيات الاجتماعية- الثقافية كالعرق والدين مثلا. غير أنه، ومع توالي الوقت، يستشعر أن وجود الغير يشرط وجوده، فهو وجود مشروط بوجود غيره.أي أنه ما كان ليوجد لولا الغير (الوالدين مثلا) وما كان له أن يدرك طبيعته الخاصة لولا هذا الغير أيضا (تجربةالأطفال المتوحشين). ومن ثمة فإن الغير يعد ضرورة أنطولوجية ومعرفية تستطيع من خلاله الذات الوعي بنفسها، وهو أيضا وجود تحكمه وتحدده الشروط والإكراهات الاجتماعية التي يعيش في كنفها. من هنا، يمكننا أن نتساءل: هل وجود الغير ضروري بالنسبة للأنا لإدراك ذاته؟ وهل وجوده شرط لوجود الأنا أم أنه تهديد له؟
يؤكد النص على أن وجود الغير ضروري لوجود الأنا، بل لمعرفتها بنفسها، ما دام الغير هو الوسيط الضروري الذي تثبت من خلاله الذات وجودها في العالم وتعي ذاتها، فلكي تعرف الأنا حقيقتها لا بد من المرور عبر الغير الذي يعتبر شرط تكوين معرفة عن الأنا. فحقيقة وجودها تكمن في البينذاتية التي تفيد أن بين الذوات أمورا مشتركة تجعل من وجودها شيئا واحدا؛ فوجود الأنا لا معنى له إذا لم تلتحم وتتحد مع الآخرين. وهذا يعني أن قدر الإنسان هو الانفتاح على الآخر بدل البقاء سجين ذاتيته الخاصة، فالوجود الفردي هو في نفس الوقت "وجود-مع- الآخرين" و"وجود-من أجل- الآخرين". لبناء أطروحته وتوضيحها استند النص إلى جملة من المفاهيم شكلت بنيته الأساسية أولها مفهوم الكوجيتو الذي ينسب إلى ديكارت وهو الأنا أفكر الذي يعد أساس الوعي بالذات وشرط وجودها من منظور ديكارت، ومفهوم الآخر الذي يعني كل ما هو مخالف للأنا أي تلك الذوات الإنسانية المخالفة للذات، أما المفهوم الثالث الذي ارتأيت أنه مفهوم أساسي في النص فهو مفهوم البينذاتية وهو يفيد أن هناك بين الذوات أمورا مشتركة تجعل وجودها وجودا واحدا، ففي عالم البينذاتية الإنسان حر في اختيار ما يريد أن يكون كما أن غيره كذلك حر في أن يكون ما يريد. أي أنه لا يمكن أن يوجد إلا إذا اعترف به كما هو أي كذات حرة لها هويتها الخاصة. فهذه المفاهيم المحورية، والعلاقات التي يقيمها الفيلسوف فيما بينها هي التي تحدد أطروحة النص.
لذلك يلتجئ الفيلسوف، لتوضيح أطروحته، إلى بنية حجاجية تتخذ من مجموعة من الأساليب الحجاجية منطلقا لها لإضفاء القوة والمعقولية على دعواه أهمها، أسلوب المماثلة، حيث أن النص يبدأ بمماثلة بين عملية الوعي بالذات بواسطة الكوجيتو وبين اكتشاف الآخرين إذ أن عملية الوعي بالذات حسب صاحب النص تقترن باكتشاف الوجود مع الآخرين. ناهيك عن أسلوب التأكيد حين أكد الفيلسوف أن الغير ضروري لوجود الأنا وبأنه ضروري بنفس القدر لمعرفة الأنا بنفسه، وأخيرا أسلوب الاستنتاج ويتجلى في آخر النص حين اعتبر صاحبه أن عالم البينذاتية ما هو إلا نتيجة لوجود الأنا مع الغير وبالتالي فوجودهما شيء واحد ومشترك.
إذن نخلص من تحليل النص إلى أن الغير ضروري بالنسبة للأنا للوعي بذاته ولمعرفة ذاته والاعتراف به كأنا له هويته الخاصة. لكن ألا يمكن أن يعتبر الغير تهديدا بالنسبة للأنا عوض أن يكون شرطا لوجودها؟
أحيانا ما يشكل حضور الغير بجانب الأنا خطرا وتهديدا لحياتها ولاستمراريتها، وفي أحيان أخرى يمثل الغير عامل استلاب للذات فيفرغها من إمكاناتها ويفقدها خصوصيتها وتميزها ومن ثم يفقد الشخص هويته ووجوده الأصلي أي أن وجود الإنسان بما هو إنسان يوجد تحت رحمة الغير، وليس له وجود مستقل، فذوبانه في الجماعة وعاداتها يجعله شبيها ومماثلا لجميع الناس وكأنه لا أحد. وهذا ما أكد عليه مارتن هايدجر في كتابه الوجود والزمن.
لكن ورغم ما ما تعانيه الذات من وضعية استلاب وعبودية أمام الغير، فإن وجوده شرط ضروري لوجود الذات. ويقدم في هذا السياق مثال الخجل الذي هو حالة شعورية إزاء شيء ما الذي هو الذات. وبالتالي فالخجل يحقق علاقة باطنية بين الأنا والأنا ذاته، إنه إذن مظهر من مظاهر وجودي. ومع ذلك، فالخجل ليس ظاهرة تأملية ذاتية فحسب، بل إنه خجل أمام أنا آخر، ما دام هذا الأخير هو الوسيط الذي لا يمكن للذات أن تحقق وجودها وأن تعي نفسها في غنى عنه. يقول سارتر: " أنا خجول من نفسي بقدر ما أتبدى للغير"، ومن ثم فالخجل هو خجل من الذات أمام الغير.
كما أن الغير ضروري، كما أسلفنا، للذات من أجل استكمال الوعي بذاتها وإدراك نفسها إدراكا كاملا، فلولا الغير لما أمكنني كإنسان أن أعرف حقيقة نفسي ولما أمكنني إثبات ذاتي ومعرفة حقيقة طبيعتي الإنسانية.
إن وجود الغير قد يشكل نفيا للذات وإثباتا لها في نفس الآن، ما دام يتسبب في توليد الخجل بالنسبة للذات، ويحد من حريتها وتلقائيتها، وفي نفس الوقت هو شرط وجود الأنا، ما دام يمكن هذا الأخير من إثبات ذاته وتحقيق وجوده. فإذا كان الغير موجودا، فهل يمكن معرفته؟ وما السبيل إلى هذه المعرفة؟ وكيف تتم وبأي طرق؟