ينتشر العنف من حولنا في كل مكان: بدءا من الانفجار العظيم الذي نتج عنه الكون، مرورا بالعاصفة التي تحطم الشجر، والمجرمين الذين يسطون على بنك وصولا إلى جيشين نظامين يتواجهان في إطار عنف جماعي ممنهج بهدف إبادة الآخر ومحوه... ومن الصعب أن نتصور - والحالة هذه - إمكانية اجتثاث شيء منتشر في كل مكان و زمان، بيد أن التفكير الفلسفي لا يكتفي بإثارة الصعوبات بل يتعداها إلى البحث عن الأسباب والعلل. وهذا ما يحثنا عليه السؤال المطروح علينا والذي يبدأ بــ "لماذا" التي هي أداة استفهام للاستفسار عن العلة والسبب والمبرر. لذلك سنتساءل: ما الذي يمنع من اجتثاث العنف ووضع حد لهذا الانتشار؟ وإذا كان الجميع يتفق على إدانة العنف والاحتجاج عند الوقوع ضحية له، فلماذا يتعذر اجتثاثه رغم ذلك؟ وإذا تعذر اجتثاثه، فهل يعني ذلك الرضوخ والاستسلام له؟
تحدث أشكال كثيرة من العنف بموجب نظام الطبيعة مثل ظاهرة الافتراس في السلسلة الغذائية، ولعل السؤال المطروح علينا لا يقصد هذه الأشكال من العنف لعدم إمكان إخضاعها للتقييم الأخلاقي، وعليه سنقتصر في تحليلنا على أشكال العنف الصادرة عن الإنسان، مستعملين مفهوم "العنف" بالمعنى التالي: الفعل المفروض على الشيء من الخارج و المعارض لطبيعته، والمصحوب بنية الإساءة والإيذاء المادي أو النفسي. أما الاجتثاث الوارد في السؤال فتعبير مجازي. ويعني في الأصل اقتلاع الشيء من جذوره، ويدل في الحالة التي تعنينا على إمكانية محو العنف بشكل تام ونهائي، كما يدل ضمنيا على أن العنف ظاهرة متجذرة في الوجود الإنساني.
فلنتأمل أولا في طبيعة هذا الإنسان الذي يصدر عنه العنف عسى أن نكشف عن جذور العنف داخل الإنسان لنقف على السبب الذي يحول دون اجتثاثه: يخبرنا طوماس هوبز ومن بعده فرويد بأن هذا الإنسان ذئب لأخيه الإنسان وأن العدوانية تندرج ضمن معطياته الغريزية، صحيح أن البشر يعيشون اليوم في كل مكان في إطار مجتمعات تنظمها سلطة عليا، لكن الاجتماع لا يمكن أن يلغي ما هو طبيعي في الإنسان الذي يظل كوحش اضطر لوضع قناع؛ ولكن أليس الإنسان كائنا ثقافيا أيضا؟ نعم. ولكن لا يمكن للثقافة أن تمحو ما نقشته الطبيعة، بل إنها تفاقم من خطورة هذا العنف من خلال تأليب الناس ضد بعضهم البعض ( الحروب) وتكريس الاختلاف والتعارض بين بني البشر بناءا على انتماءاتهم الثقافية مما يزيد من صعوبة اجتثاث العنف. أضف إلى ذلك أن الثقافة قد تضفي على العنف نوعا من المشروعية كما في حالة العنف المقدس الذي نجده في الكثير من الشعائر والطقوس الدينية قديمها وحديثها. فكيف لنا ان نجتث عنفا أضفي عليه الطابع المقدس وصار قربى للآلهة وفريضة من فروض الطاعة والتقوى؟!
إن صعوبة اجتثاث العنف لا ترجع فقط إلى طبيعة الإنسان أو تحريض الثقافة، بل تعود أيضا إلى أسباب اقتصادية مادية بحتة: لا يمكننا تناول ظاهرة العنف في العالم المعاصر بمعزل عن تجارة السلاح مثلا كما يقول إيف ميشو، وهي تجارة تستحوذ على نسبة مهمة من التجارة العالمية وتمثل مصالح اقتصادية قوية يحرص عليها أصحابها حرص التاجر على ربحه. وكأن اجتثاث العنف في نظرهم تدمير لنشاطهم الاقتصادي واستثماراتهم! وعلى ذكر العوامل الاقتصادية لابد أن نستحضر المقاربة الماركسية لظاهرة العنف: إذ يرى ماركس أنه و منذ أن خرجت الإنسانية من حالة المشاعة البدائية، أصبحت تركيبة المجتمع طبقية موزعة بين منتجين مضطهِدين لا يظفرون بغير القليل، ومستغلين مضطهًدين يستحوذون على الفائض لصالحهم كما يقول ماركس، ولذلك فإن الذي يحول دون اجتثاث العنف هو هذه الطبقية وما بنجم عنها من صراع وتناقض بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج.
إن العنف الناجم عن الصراع الطبقي يظل على العموم عنفا ماديا باديا للعيان، يثير لدى الضحايا مقاومة ورد فعل. ولكن العنف يتخذ أيضا طابعا خفي؟! فكيف يتسنى لنا اجتثاث شيء يتخفى ويتنكر !؟ ذلك أن العنف يتخذ شكلا خفيا ولطيفا كما هو حال العنف الرمزي الذي يخترق حسب بيير بورديو العلاقات الاجتماعية ومختلف أشكال التواصل والتلقين والتربية. فالتلميذ المنحدر من أوساط اجتماعية متواضعة مثلا، ويفتقر إلى رأسمال رمزي يؤهله لتعلم واستيعاب اللغات الأجنبية يتعرض باستمرار لعنف رمزي من قبل المؤسسة المدرسية التي تلزمه مع ذلك باستيعاب هذه اللغات ضمن شروط غير مواتية.
سعينا لحد الآن إلى تفسير تعذر اجتثاث العنف، ونستطيع أن نخلص مؤقتا إلى أن هذا الاجتثاث غير ممكن إما لأن العنف يتأصل في طبيعة الإنسان أو لأنه ناجم عن البنية الطبقية ومتصل بالمصالح الاقتصادية، أو يتخذ شكلا رمزيا خفيا
لنتخيل ولنفترض الآن أن اجتثاث العنف أمر ممكن، هل يمكن اجتثاث العنف دون استخدام العنف مرة أخرى!؟ قامت الدولة كما رأينا مع طوماس هوبز لوضع حد للعنف المعمم أو حالة حرب الكل ضد الكل، ولكن الدولة نفسها لم تضع حدا ولم تقم باجتثاث العنف إلا بواسطة عنف مضاد! لذلك يعرف ماكس فيبر الدولة بأنها جهاز يحتكر الاستعمال المشروع للعنف، ويتجلى ذلك واضحا في أجهزة الشرطة والمراقبة ومؤسسات السجون... وهكذا، فإن محاولتنا اجتثاث العنف تفرز بدورها عنفا آخر ،صحيح أنه مشروع أو يدعي الشرعية، لكنه يظل عنفا على كل حال ! ألا يمكن الخروج من هذه المفارقة!؟
نعثر عند غاندي على مخرج متمثل في "اللاعنف" كفكرة وكممارسة جوهرهما رفض مطلق للعنف على مستوى الفعل والنية على السواء. وحيث أن العنف يجد أصله في أعماق النفس، فإن اجتثاثه لا يكون إلا بالذهاب إلى هناك، إلى أعماق النفس وتطهيرها من كل نية في الإساءة إلى كل ما يحيا، وإذا فرض علينا مقاومة العنف نفسه، فليكن ذلك بطرق سلمية تصيب العنيف بخيبة أمله وتكسر اندفاعه!
ولكن الدعوة التي قادها غاندي وجسدها عمليا من خلال سيرته النضالية، لم تمنع من تعرضه هو نفسه لعنف أودى بحياته!
نخلص في الأخير إلى أن اجتثاث العنف أمر متعذر . وإذا صح استنتاجنا، فهل يلزمنا الرضوخ للعنف والاستسلام له؟
من الممكن أن نحاصر العنف ونقيد تمظهراته داخل المجتمع الواحد بواسطة آليات ديموقراطية مثل فصل السلط، وخضوع أفعال السلطة التنفيذية للمراقبة القضائية، كما يمكن الحد من الصراع الطبقي بواسطة نظام اجتماعي أكثر عدلا وإنصافا على النحو الذي دعا إلى ذلك جون راولز. دون أن ننسى التقدم الذي أحرزته الأنظمة القضائية عندما جرمت التعذيب وألغت العقوبات العنيفة الماسة بالسلامة الجسدية...
ولكن ماذا عن العنف في العلاقات بين الدول؟ الراجح أن العلاقات الدولية ستظل مرتعا خصبا لكل أشكال العنف...