عندما تستكمل الذات الوعي بذاتها، تكتشف أنها ليست الوحيدة في الوجود بل إنها تحيا بجانب الغير، مما يدفعها حينئذ إلى خلق جسور للتواصل معه من أجل معرفته وسبر أغوار عالمه واختراق حدود حميميته. إلا أن الذات تصطدم خلال محاولتها التعرف على الغير بعدة صعوبات، فإذا كان يسهل عليها التعرف عليه أحيانا، ففي أحيان كثيرة يستعصي عليها ذلك لأسباب مختلفة. فهل معرفة الغير ممكنة أم أنها صعبة؟ وما هي قيمة وحدود معرفة الذات بالغير، هل هي معرفة حقيقية أم أنها مجرد افتراضات وتخمينات تبوء غالبا بالفشل؟ وكيف تتعرف الذات على الغير وبأي أدوات ومناهج؟ وهل، أخيرا، تتمثل الذات الغير كوعي وروح وجوهر أم كشيء أو موضوع؟
تتراوح معرفة الغير بين الإمكان والاستحالة، ولهذا فالمواقف الفلسفية التي قاربت إشكالية معرفة الغير انقسمت بدورها بين من اعتبر أن معرفة الغير ممكنة وبين من تنكر لهذه المعرفة واعتبرها مستحيلة أو صعبة على الأقل.
1- الموقف الأول: استحالة معرفة الغير
1-1- يرى سارتر أن وجود الغير ضروري من أجل وجود الأنا ومعرفته لذاته، وذلك واضح في قوله: “الغير هو الوسيط الضروري بين الأنا وذاته”. من هنا يعد الغيرعنصرا مكونا للأنا ولا غنى له عنه في وجوده. غير أن العلاقة الموجودة بينهما هي علاقة تشييئية، خارجية وانفصالية ينعدم فيها التواصل بينهما، أي أن هناك عدما بين الأنا والغير، جعل كليهما ينظر إلى الآخر كشيء أو موضوع وليس كأنا آخر. هكذا فالتعامل مع الغير كموضوع مثله مثل الموضوعات والأشياء يؤدي إلى إفراغه من مقومات الوعي والحرية والإرادة. ويقدم سارتر هنا مثال النظرة المتبادلة بين الأنا والغير؛ فحين يكون إنسان ما وحده يتصرف بعفوية وحرية، وما إن ينتبه إلى أن أحدا آخر يراقبه وينظر إليه حتى تتجمد حركاته وأفعاله وتفقد عفويتها وتلقائيتها. هكذا يصبح الغير جحيما، وهو ما تعبر عنه قولة سارتر الشهيرة:”الجحيم هم الآخرون”.
وحينما يخضع الأنا الغير للمعرفة ويتعامل معه كموضوع أو كشيء، فهو يفرغه من مقوماته الجوهرية ( الوعي والحرية والإرادة)، وبالتالي خلق هوة فاصلة بين الغير وبين الأنا الذي يريد معرفته. من هنا يرى سارتر أن الأنا يدرك الغير كجسم، ومن ثم فهو يدركه إدراكا إمبريقيا، والعلاقة بينهما هي في أساسها علاقة خارجية وانفصالية ينعدم فيها التواصل.
هكذا يبدو أن معرفة الغير كأنا آخر مستحيلة، مادام أن نظرتنا إليه لا تتجاوز ما هو ظاهري وتبقى مرتبطة بمجال الإدراك الحسي الخارجي.
لكن ألا يمكن معرفة الغير عن طريق الاقتراب منه والنفاذ إلى أعماقه؟ وكيف السبيل إلى تحقيق ذلك؟
1-2- يذهب مالبرانش في كتابه " في البحث عن الحقيقة" إلى أن معرفة الغير صعبة إن لم تكن مستحيلة. فما دامت معرفة الأنا بالغير لا تتعدى مستوى مظهره الخارجي فلن تكون معرفتها عنه إلا قائمة على الافتراض والتخمين، فتعمل الذات على إسقاط إحساساتها ومشاعرها على الغير لتتمكن من معرفته. وبما أن كل واحد منهما يملك من القدرات ما يكفيه لإخفاء ما يشكل حقيقة ذاته فلن تكون بالتالي المعارف التي لدينا عن الآخرين إلا محض افتراضات وتخمينات، ففي حالات عديدة يبرز شخص ما تضامنه مع شخص آخر، نتيجة إحساسه بآلامه لكن ما يظهره قد يخفي حقيقة شعوره فهو لن يكون أبدا نفس إحساس الشخص المتألم ويمكن أن يكون مجرد شفقة ليس إلا. يقول مالبرانش: " فأنا أراك تتألم، لكن إحساسي بك لا يمكن أن يدوم طويلا، لأنني سأخفيه سريعا. هذه إذن هي الأسباب التي تجعل من المعرفة المتبادلة بين الأنا والآخر شيئا صعبا وغير ممكن".
2- الموقف الثاني: إمكانية معرفة الغير:
2-1- وجه موريس ميرلوبونتي نقدا شديد اللهجة إلى سارتر، لأن نظرة الغير لا تحول الذات إلى موضوع والعكس كذلك. أي أنها نظرة تشييئية قائمة على النفي والانسحاب والانغلاق على الذات، ولذلك فهي نظرة لا إنسانية تعامل الغير كحشرة. إلا أن العلاقة بين الأنا والغير تحتمل إمكانات أخرى غير تشييء بعضهما للآخر، وذلك عن طريق التواصل والحوار؛ فالنطق، ولو بكلمات قليلة، هو دليل على أن كل ذات لا يمكن أن تعيش وحيدة في العالم، ما دام أن حقيقة وجودها تكمن في البينذاتية التي تفيد أن بين الذوات أمورا مشتركة تجعل من وجودها شيئا واحدا؛ فوجود الأنا لا معنى له إذا لم تلتحم وتتحد مع الآخرين. وهذا يعني أن قدر الإنسان هو الانفتاح على الآخر بدل البقاء سجين ذاتيته الخاصة، فالوجود الفردي هو في نفس الوقت "وجودا-مع- الآخرين" و"وجودا-من أجل- الآخرين". وإذا كانت معرفة الغير ممكنة، فبأي وسائل تتحقق هذه المعرفة؟
- الاستدلال بالمماثلة: يرتكز استدلال المماثلة على التعبيرات الجسدية الخارجية التي تقوم كوسيط بيني وبين معرفة الحالات الشعورية للغير؛ باعتبار أنني أقوم بنفس التعبيرات الجسدية التي يقوم بها الغير حينما أحس ببعض المشاعر، فأستنتج أن الغير هو أيضا يحس بها حينما يقوم بتعبيرات جسدية مماثلة لتلك التي أقوم بها.
غير أن استدلال المماثلة يطرح كثيرا من الصعوبات، من بينها أن الغير قد يتستر على مشاعره فيبدي من التعبيرات الجسدية عكس ما يبطنه من حالات وجدانية، كما أنه قد يسيء التعبير عنها، فضلا على أن بأعماق الذات مناطق لاشعورية لا يملك الشخص نفسه معرفة حقيقية بها، فكيف له إذن أن يعبر عنها للآخر بواسطة الإيحاءات الجسدية الخارجية.
- التعاطف الوجداني: تتم معرفة الغير حسب الفيلسوف الألماني شيلر من خلال آلية التعاطف الوجداني التي تجعل الذات تسعى إليه وتفهمه، رغم علمها المسبق بأنها لن تتألم كما يتألم ولن تفرح كما يفرح، لأنها لن تكون هي الغير. ومع ذلك يمكنها دائما أن تتألم وأن تفرح معه، وأن تقترب منه عبر اقترابها من نفسها باعتماد نوع من النقل الداخلي للخبرة الوجدانية، إذ سبق للذات أن تألمت وأن فرحت. إذن بالمماثلة والتعاطف الوجداني يمكن للأنا، في نظر شيلر، أن تقترب من الغير وتتعرف عليه.