نموذج مقترح لتحليل نص فلسفي (الفلسفة الاداب 2009)
النص:
أرى أن أي إنسان مقتنع بحيازته لحرية الاختيار أو حرية الإرادة، يتميز بإحساس أعظم بالمسؤولية يفوق الشخص الذي يعتقد أن الحتمية الشاملة تسود العالم و تتحكم في حياة البشر. و تعني الحتمية أن تيار التاريخ، وما يحمله من شتى مظاهر الاختيارات و الأفعال الإنسانية، تحدد مساره مسبقا تحديدا كاملا مند بداية الزمن.
إن من يعتقد أن كل ما هو كائن قد تحددت له كينونة ما، بمقدوره أن يحاول التنصل من المسؤولية الأخلاقية المترتبة عن ارتكاب الفعل الخاطئ، كالزعم بأنه كان مجبرا على فعل ما فعله، لأن هذا الفعل كان مقدرا تبعا للقوانين الصارمة التي تربط السبب بالنتيجة.
أما إذا كان الاختيار الحر موجودا حقا في لحظة الاختيار، فلا يخفى أنه في هذه الحالة، سيتمتع الناس بالمسؤولية الأخلاقية الكاملة لاتخاذ القرار و الاختيار بين بديلين أو أكثر من البدائل الحقيقية. و بذلك لا يكون لحجة الحتمية أي وزن .”
حلل النص و ناقشه
يندرج هذا النص في إطار مجزوءة الوضع البشري وخاصة مفهوم الشخص في ارتباطه بمفهوم الحرية. فإذا كان الإنسان أو الشخص يتحدد داخل الفلسفة باعتباره ذاتا يمكن أن تنسب إليها مسؤولية أفعالها كما نجد عند كانط فمن الأكيد أنه يتمتع بخصائص تبعده عن الضرورة والحتمية باعتبارها شروط وأسباب ثابثة تتعارض مع فكرة الإرادة الحرة للإنسان، لكن بما أن هذا الشخص يعيش في دائرة اجتماعية وتاريخية وطبيعية ، فإنه معرض لتأثيراتها وشروطها.
إن هذه الازدواجية التي يكشف عنها النص هي ما يجعلنا نتساءل.هل الشخص فعلا يتمتع بحرية الاختيار أو حرية الإرادة .وبالتالي فهو ذات مستقلة ومسؤولة عن كل ما يصدر عنها من أفعال أم أن الاكراهات (الاجتماعية ، التاريخية ، النفسية،السياسة) التي يعيش ضمنها تتحمل جزءا من المسؤولية أو كلها؟
سعيا وراء الإجابة على هذه الإشكاليات يتقدم النص بأطروحة أساسية مفادها أن الإنسان أو الشخص المتمتع بحرية الاختيار أو حرية الإرادة ،يترتب عنه القدرة على تحمل مسؤولية أفعاله كنتيجة لكل هذه الصفات، عكس الإنسان المؤمن بالحتمية، وبالتالي التنصل من المسؤولية الأخلاقية لأفعاله.
إن النظر إلى الإنسان بهذا الشكل، أي بهذه الازدواجية ينتج عنه موقفين، يؤديان إلى نتائج مختلفة، فالإقرار بالحرية في الاختيار أو حرية الإرادة واقتناع الشخص بأن هذه الصفات هي صفات تتمتع بها الذات الإنسانية ، فإن ذلك يبعث إحساسا عظيما بالمسؤولية إزاء الأفعال والأقوال، هذا الإحساس بالمسؤولية يقل لدا الشخص الذي يعتقد أن ليس له أي دور في تحديد مصيره أو أفعاله ، وإنما هنالك حتمية شاملة تتحكم في حياة البشر ، يحدد ما هو كائن وما سيكون ، وتترتب عن هذا التنصل عن المسؤولية الأخلاقية المترتبة عن ارتكاب الفعل الخاطئ .
ولبناء هذا التطور يستعمل النص بنية مفاهيمية ذات مرجعية فلسفية أخلاقية تحتفي بحرية الذات والمسؤولية ( الحرية ، الاختيار، الارادة، المسؤولية الأخلاقية )فالحرية والارادة هما صفتان أساسيتان تتمتع بهما الذات الانسانية ، فالحرية هي أقصى درجة ممكنة في الاستقلالية ، التي تقتضيها الارادة والتي يتحدد في إطار هذه الاستقلالية ذاتها، أي أن هناك علاقة جدلية بين الحرية والإرادة ، فالإقدام على اتخاذ قرار معين يجدد فقط مبرره في الإرادة وهذا هو مصدر حرية الذات الإنسانية ، والإقرار بهذه الحرية يحمل صاحبها عبئا بالمسؤولية أي الشعور بأننا المتحكمين في الحدث وبالتالي في النتائج المترتبة عنه، كما يؤكد ذلك J.P.Sartre
في مقابل هذه المفاهيم التي تنفي الحرية الإنسانية، كما تنفي عنها مسؤولية أفعالها ( الحتمية، الإجبار.....) وتؤكد هذه المفاهيم على أن الاشراطات الخارجية كالتاريخ والمجتمع والعالم محكوم وفق حتمية شاملة تتحكم في حياة البشر، وبالتالي فهم غير مسئولون عن أفعالهم.
ولإقناعنا بأطروحته يلتجأ النص إلى بنية حجاجية شكلت هيكله الاستدلالي ، أهمها الروابط المنطقية واللغوية ( ... أن... إن...إذا وذلك يهدف إضفاء نوع من الترابط المنطقي والانسجام اللغوي على النص ، كما لجأ أيضا إلى حجة ذاتية شخصية " أرى أن..." توضيح موقفه إزاء حرية إلا أن في الاختيار، الذي يترتب عنه إحساس أعظم بالمسؤولية ، كما وظف أيضا حجة تفكيك المفهوم "وتعني الحتمية .." وذلك بغرض إبراز نضرة موقف الحتمية الذي يعتبر أن الاختيارات والأفعال الإنسانية تحدد مسارها مسبقا ، هذا الأمر الذي يؤدي إلى التنصل من المسؤوليات الأخلاقية عكس الاختيار الحر الذي تبثها .كما استند النص أيضا إلى حجج إثبات الاختيار الحر لدى الإنسان وقدرته على اتخاذ القرار وتحمل مسؤوليته.
إن القيمة الفلسفية للنص تتجلى في محاولة النظر إلى الإنسان خارج كل التحديدات والحتميات الشاملة والتأكيد على حرية الاختيار.
في نهاية هذا التحليل نخلص إلى أن الإنسان أو الشخص المقتنع بحيازته للحرية والإرادة تتميز بإحساس أعظم بالمسؤولية الأخلاقية أكثر من الشخص المؤمن بالحتمية، والنص ينتصر للموقف الأول، فإلى أي حد يمكن التسليم بما ذهب إليه النص،كجواب على الإشكاليات التي يطرحها الحرية الإنسانية ؟
ألا يمكن اعتبار الاكراهات التي يعيش ضمنها تتحمل جزءا من المسؤولية أو كلها؟
تأكيدا للموقف الذي يعرضه النص يرى كانط أن الشخص هو الذات التي تنتسب إليها مسؤولية أفعالها : وهو ما يجعله متميزا عن غيره ذو هوية خاصة وقيمة يستمدها من قدراته العقلية وكفاءاته الخلقية . ويتأكد هذا الموقف لدى الفيلسوف الفرنسي ديكارت الذي يرى أن الإرادة هي حرية الاختيار، فالآن حسبه كائن حر في اختياراته وهذه الحرية تقوم على الإرادة التي هي ملكة الفعل أو عدما لفعل انطلاقا من معرفة مسبقة بالفعل ونتائجه والإرادة حسب ديكارت لا تخضع لأي إكراه خارجي أثناء فعلها أو عدم فعلها، لكن رغم هذا فهذه الإرادة ليست مطلقة كما في الإرادة الإلهية.
هذه الحرية في الاختيار هي ما سيكتسي أهمية كبرى داخل الفلسفة الوجودية خاصة مع ج.ب. سارتر الذي يرى ان الشخص له كامل الحرية في بناء ذاته وبالتالي فهو المسؤول عن أفعال ومسؤول أيضا أمام الإنسانية ككل، إن الحرية الإنسانية عند سارتر تتعارض مع الفوضى والعبث وترتبط بالمسؤولية.
ضدا على هذه التصورات التي تؤكد حرية الذات الإنسانية في الاختيار وبالتالي مسؤوليتها يرى الفيلسوف الهولندي اسبنوزا أن الإنسان خاضع لعدة اختيارات فيزيائية وكيميائية وبيئية واجتماعية ونفسية لافكاك منها، وعدم وعنها بوضوح هو ما يوحي له أنه حر. إن الحرية الإنسانية ووعي الناس بأفعالهم ورغباتهم ما هي إلا وهم يقف وراءه الجهل بالأسباب الحقيقية المحددة لأفعال البشر.
إن هذا التصور هو ما يتأكد عند المحللون وعلماء الاقتصاد حينما اعتبروا أن الوضع الاقتصادي هو أهم الأبعاد. التي تحدد مجال لحركته الكائن البشري. فليس الأشخاص أحرارا إذن ولكنهم دمى تسييرها الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.
لكن ألا يعني القول بالحرية بما هي القدرة على الفعل المطلق سقوطا في الفوضى؟ وهنا تطرح مسألة علاقة الحرية بالقانون، هل ثمة تعارض بينهما:وكجواب على هذا يجب يرى توماس هوبس أن القانون هو الذي يظن ذلك التمتع بحريته، كما يقوم بتنظيمها كما يتجلى ذلك في المجتمع المدني التعاقدي.
يتضح لنا من تحليل ومناقشة هذا النص الطابع الإشكالي والمعقد للفعل الإنساني.فمن جهة نرى هذا الإنسان يعيش داخل جماعة معينة وداخل قيم ثقافية واجتماعية معينة تحدد مساره، وتتحكم في أفعاله، لكن من جهة أخرى نرى أن الذات الإنسانية هي أيضا ذات حرة ومريدة تستطيع التخلص من هذه الاكراهات والحتميات وان لم يكن الأمر بشكل كامل، وإنما يناضل من أجل إرادته وهذا مظهر من مظاهر حريته. وبالتالي مسؤوليته عن أفعاله.