الشخص بين الضرورة والحرية:
*إشكال المحور:
هل الشخص ذات حرة ومستقلة أم أنه خاضع لجملة من الحتميات والإكراهات المختلفة؟
1-الشخص خاضع لضرورات وحتميات مختلفة.
أ-موقف اسبينوزا: أفعال الإنسان محكومة بضرورات طبيعية.
يرى اسبينوزا أن الناس يعتقدون أنهم أحرارا في أفعالهم وأنهم يتصرفون وفق إرادتهم واختيارهم، لا سيما أنهم يكونون على وعي بما يقومون به، إلا أن الحقيقة بخلاف ذلك؛ فالناس يجهلون الأسباب الحقيقية لأفعالهم ورغباتهم والتي تحددها بشكل طبيعي وحتمي.
إن التجربة تبين حسب اسبينوزا أن الناس لا يستطيعون التحكم في شهواتهم بما فيه الكفاية؛ ذلك أنهم غالبا ما يدركون الأفضل ومع ذلك يفعلون الأسوأ وينتابهم الندم من جراء ذلك. وفي هذا السياق يقدم اسبينوزا أمثلة تتعلق برغبة الرضيع في حليب الأم، وبحالة الغضب التي تنتاب الشاب وهو يريد الانتقام، وبرغبة الجبان في الفرار، لكي يبين لنا من خلالها أن هؤلاء وغيرهم من الناس يظنون أنهم أحرار أثناء قيامهم بتلك الأفعال وغيرها، إلا أن واقع الأمر عكس ذلك فهناك أسباب خفية تقف وراء أفعالهم تلك وتوجهها.
هكذا فمن الوهم الاعتقاد، حسب اسبينوزا، بأن الإنسان حر نظرا لجهله بالأسباب التي تحرك أفعاله وأقواله، وهي أسباب لا تخرج عن إطار الحتمية الطبيعية التي تخضع لها جميع الأشياء.
ب-موقف العلوم الإنسانية: الشخص خاضع لحتميات لاشعورية واجتماعية(التحليل النفسي نموذجا).
يعتبر التحليل النفسي الفرويدي أن البنية النفسية للإنسان تتحدد بشكل حاسم في مرحلة الطفولة، كما أن سلوكاته تقف وراءها نزعات لاشعورية توجه حياته دون أن يشعر. هكذا يحل اللاوعي محل الوعي، ويبدو الشخص خاضعا لنزعاته التدميرية العدوانية ولغرائزه الجنسية التي يختزنها “الهو”.
ومن جهة أخرى بينت الدراسات الاجتماعية والأنثروبلوجية أن الكثير من أحاسيس الإنسان وأفكاره وسلوكاته مفروضة عليه من خلال التنشئة الاجتماعية. فالشخص لا يعدو أن يكون نتاجا لتفاعل بنيات وقواعد مؤسسية مختلفة تمارس عليه الإكراه من مختلف الزوايا؛ سواء تعلق الأمر بالبنيات النفسية أو اللغوية أوالمادية والاقتصادية. من هنا فقد انتهت العلوم الإنسانية إلى التأكيد على أن وعي الشخص بذاته يشوبه الوهم والغرور، وتحدثت عن موته واختفائه وسط العديد من المحددات التي تشرطه وتحاصره.
وإذا كان الفيلسوف اسبينوزا قد تحدث عن خضوع الشخص لحتمية طبيعية، وأكدت العلوم الإنسانية عن خضوعه لمحددات نفسية واجتماعية وغيرها، فهل يعني ذلك أن هناك غياب تام لحرية الشخص في بناء نفسه وتقرير مصيره؟
2- الشخص حر في بناء نفسه وتقرير مصيره.
أ-موقف سارتر: الشخص مشروع حر ومستقبلي يجعله أمام إمكانات لا نهائية.
يرى سارتر أن الإنسان كشخص هو مشروع مستقبلي، يعمل على تجاوز ذاته ووضعيته وواقعه باستمرار من خلال اختياره لأفعاله بكل إرادة وحرية ومسؤولية، ومن خلال انفتاحه على الآخرين. ولتأكيد ذلك ينطلق سارتر من فكرة أساسية في فلسفته وهي أن“ الوجود سابق على الماهية”، أي أن الإنسان يوجد أولا ثم يصنع ماهيته فيما بعد.إنه الكائن الحر بامتياز، فهو الذي يمنح لأوضاعه معنى خاصا انطلاقا من ذاته؛ فليس هناك سوى الذات كمصدر مطلق لإعطاء معنى للعالم.
إن الشخص هو دائما كائن في المستقبل، تتحدد وضعيته الحالية تبعا لما ينوي فعله في المستقبل.فكل منعطف في الحياة هو اختيار يستلزم اختيارات أخرى، وكل هذه الاختيارات نابعة من الإنسان باعتباره ذاتا ووعيا وحرية.
ب-موقف مونيي: الشخص حر في تقرير مصيره.
يرى مونيي أن الشخص ليس موضوعا، وبالتالي لا يمكن التعرف عليه من الخارج والتعامل معه كمادة جامدة. وهو ينتقد هنا ضمنيا موقف العلوم الإنسانية التي تطمح إلى السيطرة على الإنسان ودراسته كباقي أشياء الطبيعة. يرفض مونيي هذا الموقف الأخير ويعتبر أن الشخص وحدة كلية تتكون من عدة أجزاء وجوانب، كما أن فهمه والتعرف عليه لا يمكن أن يكون إلا من الداخل ومما هو روحي ويتميز به عن باقي الأشياء.
ومن ناحية أخرى يعتبر مونيي أن للشخص قيمة مطلقة ولا يمكن تسخيره من قبل الجماعة كوسيلة، بل هو غاية في ذاته. ولذلك فهو يدعو المجتمع إلى ضرورة توفير الظروف والوسائل الملائمة لكي يحقق الأشخاص ميولاتهم ويقرروا مصيرهم بمحض حرياتهم. وفي هذا السياق يقول مونيي: « إن الإنسان هو الذي يقرر مصيره ولا يمكن لأي شخص آخر، فردا كان أو جماعة، أن يقوم مقامه في ذلك».