إشكال المحور:
أصبح الإنسان في عصر العلم والتقنية، وفي إطار الأنظمة الرأسمالية مجرد وسيلة أو أداة فارغة من كل مقومات الذات الإنسانية من وعي وحرية وكرامة. وفي مقابل هذا الواقع، تنظر الفلسفة الأخلاقية إلى الإنسان كغاية في ذاتها وكذات أخلاقية واعية ومسؤولة عن نفسها ووضعها. أمام هذه المفارقة يطرح التساؤلات التالية:
من أين يستمد الشخص قيمته؟ هل يستمدها من ذاته أم أنها تكمن في انفتاحه على الآخرين؟ وكيف ينبغي النظر إلى الشخص، هل بوصفه غاية أم مجرد وسيلة؟
1- قيمة الشخص نابعة من ذاته:
أ- موقف إيمانويل كانط (1724-1804): قيمة الشخص يستمدها من عقله الأخلاقي
الإنسان كائن عاقل وهو غاية في ذاته وليس مجرد وسيلة يستخدمها هو نفسه أو غيره لتحقيق غرض أو هدف معين. فالإنسان من المنظور الكانطي هو الكائن الوحيد الذي له قيمة مطلقة لأنه يتحدد كغاية في ذاته. ولهذا السبب يسمى الإنسان شخصا وتسمى باقي الموجودات الطبيعية أشياء. فالإنسان على خلاف تلك الكائنات ليس قابلا للبيع والتسعير، فهو كشخص يعتبر قيمة مثلى تتجاوز كل سعر. إن الشخص غاية في ذاته، له إرادة وكرامة لا تقدر بأي ثمن ويتمتع بالاحترام واحترامه هذا يعني احترام الإنسانية جمعاء.
يندرج هذا الموقف في إطار فلسفة نقدية وأخلاقية تنظر إلى الشخص كذات أخلاقية قبل أن تكون هوية عاقلة، وبذلك ينبغي أن يكف عن أن يكون مجرد وسيلة لتحقيق غايات أخرى ليتحول إلى غاية في ذاته.
ب- موقف إيمانويل مونيي (1905-1950): قيمة الشخص تكمن في وعيه وإرادته وخاصية التجاوز لديه.
يؤكد مونيي أن قيمة الشخص تتجاوز بكثير مظاهره ومحدداته الخارجية؛ إذ أنه لا يمكن أن يختزل في كونه يحمل اسما أو ينتمي إلى طبقة أو إلى مجتمع ما. ويمكن رد ذلك إلى كونه عبارة عن واقع كلي وشمولي لا يحتمل أن يعامل كما تعامل الأشياء؛ بالنظر لأن من اليسير العثور على شيء ذي قيمة عند تجميع وسائل متناثرة؛ في حين أن العمل نفسه لا يمكن أن يصنع شخصا ذا عقل وإرادة.
يتلخص موقف مونيي حول الشخص ككيان يتميز بالإرادة والوعي والتجاوز بخلاف الأشياء الخارجية أو الموضوعات التي هي كائنات متطابقة كليا مع ذاتها. إن الشخص الإنساني يتميز بخصوصيته الفردية وسماته العقلية والوجدانية والجسمية الخاصة وأنه لا سبيل إلى إرجاعه إلى ما يماثله أو يشبهه. وهو يكتسب باستمرار سمات شخصيته ويغنيها عبر عملية التشخصن. فالشخص ليس معطى نهائيا ناجزا بل هو عملية اكتساب ومراكمة مستمرة لسماته الخاصة.
2- قيمة الشخص يستمدها من غيره عبر كل أشكال المشاركة والانفتاح والتفاعل مع المجتمع والمحيط
أ- موقف جورج غوسدورف (1912-2000): قيمة الشخص لا تتحقق إلا من خلال مشاركته للغير.
ينطلق غوسدورف من التمييز بين الفرد والشخص، فالفرد هو من يضع نفسه في مقابل العالم وفي تعارض مع الآخرين، فيتصور نفسه كبداية مطلقة أو كأنه امبراطور في امبراطوريته. أما الشخص فهو من يدرك أنه لا يوجد إلا بالمشاركة. وتبعا لذلك فقيمة الشخص لا تكمن في الاستقلال عن الآخرين أو في ما أسماه غوسدورف الوهم الفردي بل في إطار المشاركة والاندماج والانفتاح على الآخرين.
إن هذا الموقف دعوة إلى القطع مع كل نزعة أنانية وفردانية وانعزالية لأن العالم ليس فضاء للذات وحدها وإنما هو فضاء لتلاقي ذوات كثيرة، تتعاون جميعها من أجل الوصول إلى غايات إنسانية نبيلة.
ب- موقف جون راولز (1921-2002): قيمة الشخص في انفتاحه على الآخرين وتعاونه معهم والتزامه بمبادئ الأخلاق.
يمثل هذا التصور الفيلسوف الأمريكي جون راولز الذي ينطلق من نظرة تركيبية تجمع بين التصور الفلسفي والاجتماعي والسياسي والقانوني. وقد أفضت نظرته هاته إلى تحديد قيمة الشخص في ضرورتين: أولا، ضرورة الانفتاح على الآخرين عبر المشاركة في الحياة الاجتماعية أو لعب دور معين. وثانيا، ضرورة الالتزام بمبادئ الأخلاق. يقول راولز في معرض حديثه عن الشخص: " الشخص هو ذلك الكائن القادر على المشاركة في الحياة الاجتماعية... واحترام مختلف الحقوق والواجبات."
وهو نفس ما ذهب إليه قبله فيلسوف الجدل الألماني هيغل حينما أكد أن الشخص لا يكتسب قيمته الأخلاقية إلا عندما يعي ذاته وحريته وينفتح على الواقع الذي ينتمي إليه، بالدخول مع الجماعة في علاقة تعاون متبادلة امتثالا للواجب ولروح الشعب الذي يمثله.
تركيب:
كخلاصة لما سبق، يمكن القول إن الشخص غاية في ذاته وقيمة أخلاقية عليا تستدعي الاحترام والتقدير، فلا يمكن في أي ظرف اعتباره وسيلة واستغلاله لتحقيق غايات أسمى منه، كما أن هذه القيمة تزداد بانفتاحه على الآخرين وتضامنه معهم والتزامه بمبادئ الأخلاق.