السؤال الفلسفي: هل تكمن قيمة الحقيقة في ما هو نافع؟
1- مستوى الفهم:
1-1- تأطير السؤال: مجزوءة المعرفة، مفهوم الحقيقة، وبالضبط قيمة الحقيقة.
1-2- الإشكال المضمن في السؤال: أين تتجلى قيمة الحقيقة؟ هل الحقيقة وسيلة أم غاية في ذاتها؟
1-3- رهان السؤال: تحرير الحقيقة من سلطة الوهم ومن كل نزعة براغماتية من خلال ممارسة النقد الفلسفي.
مثال لمقدمة:
اعتاد الناس النظر إلى الحقيقة باعتبارها مرادفا لما هو صحيح ومنطقي ومتماسك، مستبعدين بذلك إمكانية تعايشها مع أضدادها (الخطأ، الوهم، الكذب...). لكن الواقع، على العكس من ذلك، يشهد أن الحقيقة لا تعني فقط ما هو مطابق للفكر أو للواقع، وإنما كذلك ما يخول لشخص ما تحقيق مصلحة أو منفعة سواء تم ذلك بكيفية شرعية أو غير شرعية. وبذلك صارت الحقيقة وسيلة في يد هذا أو ذاك يسخرها لقضاء غاياته الخاصة ولإضفاء المعقولية على خطابه. فهل الحقيقة وسيلة أم غاية؟ وأين تكمن قيمتها؟
هل تتحدد قيمتها فيما تجلبه من منافع أم أن قيمتها تكمن فيها؟
2- مستوى التحليل:
2-1- شرح المفاهيم وتبيان العلاقات الموجودة بينها.
• الحقيقة: تعني لغويا الصواب أو الصدق في مقابل الخطأ أو الكذب، وتدل منطقيا وفلسفيا على مطابقة الفكر لموضوعه. هكذا يقال عن فكرة ما بأنها حقيقية، عندما تظهر الشيء كما هو فعلا، وفي المقابل يقال عن الفكرة أنها خاطئة عندما تظهر الشيء بخلاف ما هو عليه في الواقع. مثال: الذهب الحقيقي.
• القيمة: قيمة الشيء هي تلك الصفة التي تجعله موضع تقدير ورغبة واحترام.
2-2- أطروحة السؤال: قيمة الحقيقة تكمن في ما تجلبه من منافع (مادية (المال)، معنوية، السلطة، القوة)
2-3- المواقف المؤيدة: توظف لشرح الأطروحة.
2-3-1- وليم جيمس: قيمة الحقيقة قيمة عملية، هي المنفعة.
يؤكد وليم جيمس أن الحقيقة ليست غاية في ذاتها، كما تصور بعض الفلاسفة قديما، وإنما هي وسيلة يتم تسخيرها لأجل تحقيق حاجات ومنافع مادية؛ فالحقيقي حسبه هو الواقعي والمفيد، حيث إن الفكر أو الشيء يكون حقيقيا إذا وفقط إذا كان مطابقا للواقع ونافعا في نفس الوقت. والفكرة الحقيقة تبعا لجيمس هي تلك التي لها أكبر قدر من المردودية والفعالية في مجال العمل والحياة. فالحقيقة الفيزيائية هي الحقيقة التي تسمح بالتنبؤ والتأثير في الواقع بشكل إيجابي، والحقيقة السيكولوجية هي الحقيقة التي تمنحنا شعورا بالعقلانية، أي بالرضا والاطمئنان، وأخيرا فالحقيقة الدينية هي التي تمنحنا الراحة والسكينة. يقول: " إن الأفكار التي ينبغي أن نعتبرها صحيحة...لهي تلك التي تقول لنا أي نوع من الوقائع نافع لنا وأيها ضار بالنسبة لنا..." و" يقوم الصحيح فيما هو مفيد لفكرنا والصائب فيما هو مفيد لسلوكنا" و"الفكرة صادقة إذا كانت تعمل"، ويقول: "الفكرة صادقة إذا كانت لها نتائج عملية تقودنا إلى الموضوع المقصود بها إدراكه". ويتابع "القضية صادقة إذا كانت تعطينا أكبر كم من الرضا، بما في ذلك إرضاء الذوق… وان أهم خاصية للحقيقة هي التحقق العملي".
3- المناقشة: مناقشة الأطروحة التي يفترضها السؤال.
3-1- المواقف المعارضة:
قبل الانتقال إلى موقف كانط أو غيره يبغي إبراز حدود أطروحة جيمس:
• لا تدل فائدة فكرة ما على أنها فعلا صحيحة، وبالتالي فالحقيقة منفصلة عن المنفعة.
• ربط الحقائق بالمنفعة يؤدي إلى تعدد الحقائق بتعدد المنافع والمصالح.
• الحقيقة لا تكون دائما نافعة ومفيدة بل يمكن أن تكون مؤلمة، إنها بمعنى آخر ليست دائما فكرة نرغب فيها ونأمل في اكتشافها. فمعرفتنا للحقيقة أحيانا تكون صعبة مؤلمة لأهوائنا وميولنا وعاداتنا.
• مثال: التستر على مجرم أو لص.
3-1-1- كانط: الحقيقة غاية في ذاتها وواجب أخلاقي مطلق وكوني.
يؤكد كانط أن قول الحقيقة واجب أخلاقي مطلق وكوني يتعين على كل واحد الالتزام به مهما تكن الظروف والنتائج التي يمكن أن تنتج عنه، لأن الكذب على شخص واحد يعني الكذب على الإنسانية جمعاء.
3-1-2- إريك فايل: العنف كنقيض للحقيقة.
يرى فايل أن نقيض الحقيقة ليس هو الخطأ كما كان شائعا في الفلسفات والعصور السابقة، وإنما هو العنف، كما أن الحقيقي لم يعد يشترط تطابق الفكر مع الواقع، بل تطابق الإنسان مع نمط ونوع الفكر السائد. فالخطابات السائدة لا تنطوي بالضرورة على معني الدقة والصواب (الحقيقة) ما دام أن الضامن لاستمرارها ليس هو انسجامها وتماسكها المنطقيين، بل هو قدرة أصحابها على تسخير إمكانات كبيرة تكفل لهم الهيمنة والسيطرة على الآخرين. يقول: إن الخطاب ليس حقيقيا، لأنه يتطابق مع واقع مباشر؛ لكنه كذلك لأن منتجيه يضفون عليه مسحات تجعله يظهر للجميع على أنه منسجم ومتماسك من جميع النواحي. غير أن المشكل الحقيقي، يكمن في أن الذي ينتج الخطاب يفرضه على الواقع رغم ما قد يشوبه من نواقص؛ ومرد ذلك أنه يملك ما يسعفه من وسائل لإرغام الواقع على تقبل خطاب معين بالقوة."
4- التركيب:
أمام هذه الأطروحات المتباينة، والتي تناولت مفهوم الحقيقة من زوايا متعددة لا يسعنا إلا القول بأن الإيمان بحقيقة منزهة من كل الأغراض والحاجات أي الحقيقة الخالصة وغير المشروطة أو الحقيقة المطلقة، يظل إيمانا راسخا في الفكر البشري وغاية سامية وباعثا قويا لتقدم المعرفة. إن الدرس الذي يمكن أن نستفيده من هذه المواقف الفلسفية هو ضرورة ممارسة النقد الفلسفي لتحرير الحقيقة من سلطة الوهم ومن كل سلطة خارجية أو نزعة براغماتية، لتبقى الحقيقة قيمة عقلية وأخلاقية متعالية.