1- قبل التحرير النهائي:
أ- تأطير السؤال: المعرفة، موضوع الحقيقة في علاقتها بالرأي.
ب- توسيع السؤال: ما طبيعة العلاقة القائمة بين الحقيقة والرأي؟ هل هي علاقة تكامل واتصال أم علاقة تعارض وانفصال؟
ج- تحديد المفاهيم المكونة للسؤال والعلاقات الموجودة بينها:
• الحقيقة: تعني لغويا الصواب أو الصدق في مقابل الخطأ أوالكذب، وتدل منطقيا وفلسفيا على مطابقة الفكر لموضوعه. هكذا يقال عن فكرة ما بأنها حقيقية، عندما تظهر الشيء كما هو فعلا، وفي المقابل يقال عن الفكرة أنها خاطئة عندما تظهر الشيء بخلاف ما هو عليه في الواقع. مثال: الذهب الحقيقي.
• الرأي: فكرة أو تمثل أولي، أو اعتقاد يعوزه اليقين والبرهان والموضوعية. يدل على الأفكار والمعارف التي يتلقاها الإنسان دون فحص أو نقد.
• التعارض: التقابل والتناقض.
• يتين من خلال هذا التحديد أن مفهوم الرأي يعارض مفهوم الحقيقة لأن الرأي لا يتأسس على أسس قوية عكس الحقيقة وخاصة بالنسبة للحقيقة العلمية.
د- الأطروحة أو الأطروحات المفترضة: الحقيقة تتعارض تعارضا تاما مع الرأي.
ز- المواقف المؤيدة والمعارضة:
• المواقف المؤيدة: تقر بالتعارض القائم بين الرأي والحقيقة، وتبخس من قيمة الرأي.
1- أفلاطون: للوصول إلى الحقيقة ينبغي تجاوز الرأي.
الحقيقة تعني اليقين والماهية، والرأي يرادف الوهم والمظاهر وخداع الحواس. على الفيلسوف تجاوز عالم الظن والرأي للصعود إلى عالم الحقيقة (عالم المثل).
2- ديكارت: القطيعة مع الرأي وبناء الحقيقة على العقل الذي يشك في كل شيء إلا ذاته.
3- باشلار: يمثل الرأي عائقا أمام بلوغ الحقيقة. الرأي يعكس معرفة الحس المشترك ويشكل عائقا يحول دون بلوغ الحقيقة.
• المواقف المعارضة: تقول بالتداخل بين الرأي والحقيقة.
1- موقف ليبنتز: للرأي دور مهم في تطور المعرفة البشرية. مثال: آراء كوبيرنيكوس حول حركية الأرض ودورانها حول الشمس.
2- موقف فتجنشتين:هناك آراء تكتسي طابع الحقيقة.
2- النموذج المقترح:
يطلق الرأي على مجموع الأفكار والمعارف المتداولة والرائجة بين الناس، والتي يسلم الجميع بصوابها لأنها تتوافق مع الحس المشترك. وبهذا تغدو الآراء بمثابة حقائق تتمتع باليقين والمصداقية. وبالتالي يقوم صدق الرأي على مدى شيوعه وانتشاره وليس لأنه مبني على أسس وضوابط دقيقة. فما علاقة بالرأي بالحقيقة؟ هل هي علاقة تكامل واتصال أم علاقة تعارض وانفصال؟ هل الحقيقة تقوم على الرأي أم أنها تشكل قطيعة معه؟
يبرز السؤال أن هناك تعارضا تاما بين الرأي والحقيقة العلمية. فالرأي الذي يطلق على مجموع الأفكار والمعارف السائدة بين الناس، والتي يسلم الجميع بصوابها، إما لأنها توافق الحس المشترك وإما لأنها متوارثة عن الأجيال السابقة. بمعنى أن الرأي يقين وصواب متداول بين الناس، لكن عموميته وانتشاره لا يعني بالضرورة أنه حقيقي، لأن التاريخ كشف لنا آراء عمرت طويلا وكانت عبارة عن أخطاء فادحة. على خلاف ذلك تقوم الحقيقة على ضوابط وأسس تختلف عن ما يقوم عليه الرأي، فهي ليست معطى جاهزا أو فكرا مبنيا على الحس المشترك، وإنما هي فكر يتم بناؤه بواسطة مناهج دقيقة وصارمة.
نخلص من كل ما سبق إلى أن الحقيقة تتعارض مع الرأي تعارضا واضحا، ويعود ذلك إلى أن الحقيقة تتعارض مع كل فكر جاهز أو مبني على أسس هشة. لأن الحقيقة العلمية تبنى بناء علميا دقيقا موضوعيا وحياديا يبدأ بالملاحظة مرورا بوضع الفرضيات وينتهي باختبار صحتها لتصبح قوانين نظرية مبنية ومجمع حول صدقها.
بالرغم من التباين القائم بين الحقيقة والرأي، فإن الفلاسفة بدورهم انقسموا إلى فريقين؛ حيث أكد بعضهم أن قيام الحقيقة يتطلب هدم الرأي وتجاوزه لأنه لا يقوم على أسس متينة، في حين اعتبر البعض الآخر أن هناك تكاملا بين الحقيقة والرأي، فالرأي حسب هؤلاء لا يتعارض مع الحقيقة وإما يكملها.
هكذا نجد ديكارت يذهب إلى أن الرأي يتعارض مع الحقيقة لأن الحقيقة تقوم على نشاط العقل وتنتج عن فحص علمي وبحث نقدي، والآراء معارف غير موثوقة لأنها تفتقد إلى سند العقل. ولهذا فالحقيقة ليست معطاة في آرائنا وأفكارنا المسبقة وإنما تتأسس عبر قواعد منهج الشك (البداهة، التحليل، التركيب، الإحصاء والمراجعة) إن السبيل إلى معرفة يقينية وحقة يستلزم حسب ديكارت الشك في كل الآراء والمعارف التي تشبع بها الإنسان منذ صغره.
وفي نفس الاتجاه يقول باشلار بأن الرأي يمثل عائقا ابيستمولوجيا أمام بلوغ الحقيقة. فالرأي حسبه مبني على الاعتقادات الشائعة بين عامة الناس ويعكس معرفة الحس المشترك، ولهذا وجب تخطيه وهدمه لأنه دائما على خطأ وغير قابل للتبرير النظري العلمي، ومادام أنه مرتبط بالحاجات والمنافع المباشرة، ويعتمد على التلقائية والعفوية في تناوله للأمور.
في مقابل هذين الموقفين، يدافع لايبنتس عن الرأي القائم على الاحتمال، ويعتبره معرفة يمكن الاعتماد عليها. فلا تمتلك كل المعارف اليقين المطلق، بل أغلبها يقوم على الاحتمال. والبحث عن درجات الاحتمال في معرفة ما سيفيدنا ولا شك حينما لا نستطيع أن نجزم في مسألة ما بكيفية قطعية. يقول لايبنتس: « إن الرأي القائم على الاحتمال قد يستحق اسم معرفة، وإلا سوف يتم إسقاط كل معرفة تاريخية وغيرها من المعارف ».
وقد لعب الرأي القائم على الاحتمال دورا انقلابيا في تاريخ الفكر البشري، والدليل القوي على ذلك مثلا الآراء العلمية التي قدمها كوبرنيك حول مركزية الشمس وحركية الأرض.
واضح إذن أن لا طريق إلى الحقيقة إلا بنقد الآراء وتجاوزها. وإذا كان ديكارت يدعو إلى الشك في كل الآراء والمعارف التي تشبع بها منذ طفولته، فإن غاستون باشلار قد عبر عن نفس القناعة ولكن بحصرها في مجال علمي محدد هو العلوم الطبيعية، مؤكدين معا ( ديكارت وباشلار) على أن الحقائق تبنى بناء منهجيا ولا تعطى أبدا جاهزة. لكن هذا التصورات المشككة لا يمكن أن تنفي أهمية بعض الآراء التي كانت بمثابة ثورات في تاريخ الإنسانية.