لقد راكمت البشرية تجارب وحققت تقدما هائلا على جميع المستويات والأصعدة ( المعارف، وسائل النقل والاتصال، العمران...) لكن هل تقدم الإنسانية كان دائما وفق خط متصل وتصاعدي؟ بمعنى هل التاريخ عبارة عن صيرورة خطية للأحداث والأفكار، أم أنه عبارة عن حركة دائرية وعود أبدي إلى الأشياء نفسها؟ وهل ما يحكم سيرورة الأحداث وتتابعها هو منطق الضرورة أم منطق الصدفة والعرضية؟
1- أطروحة ماركس (1883-1918)
في كتابه "مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي" أكد ماركس أن التاريخ البشري يهيمن على مساره منطق جدلي، فهو يسير في خط محتوم لا يحيد عنه، هذا الخط يرسمه الواقع الاقتصادي والاجتماعي للناس، والذي يسميه ماركس بالبنية التحتية التي تتألف من قوى الإنتاج (مجموع الأدوات أو الوسائل التي ينتج بها الإنسان ما يحتاج إليه من "اليد" أي العمال والآلات والأرض) وعلاقات الإنتاج (وهي طريقة التنظيم التي يخضع لها مجتمع ما، مثل الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج التي سادت في النظام الرأسمالي...)
ومجموع علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج يعطي ما يسميه ماركس نمط الإنتاج مثل نمط الإنتاج الرأسمالي أو الإقطاعي أو العبودي.
ويرى ماركس أن التغير الذي يطرأ على قوى الإنتاج، يصطدم بعلاقات الإنتاج التي لا تميل أول الأمر إلى الاستجابة لما وقع من تغير في قوى الإنتاج، وهذا التناقض يؤدي إلى وقوع صراع اجتماعي هو الصراع الطبقي الذي يرى فيه ماركس المحرك الأساسي للتاريخ، ويؤكد ماركس أن ما يطرأ من تغيرات على البنية التحتية ينعكس على البنية الفوقية (أي كل أشكال الوعي المختلفة كالوعي الديني أو الأسطوري أو الفلسفي أو الفني أو السياسي والقانوني. وبكلمة واحدة الإيديولوجيا بكل أشكالها)
فالتاريخ إذن من وجهة نظر ماركس هو عبارة عن حركة تقدمية ومتصلة، يتجه فيها الإنسان نحو غاية حتمية هي تأسيس مجتمع اشتراكي تغدو فيه اللممتلكات والوسائل مشتركة بين الجميع. فما دام التاريخ مبني في أساسه على اللامساواة والاستغلال، نتيجة احتكار البعض لقوى ووسائل الإنتاج، فإن الصراع الطبقي سيؤدي بالضرورة إلى زوال هذا النمط من الإنتاج وتعويضه بآخر يكفل للجميع نفس الحقوق والامتيازات.
يهيمن على اتجاه التاريخ عند ماركس إذن منطق مادي جدلي، فقد نشأ النظام الإقطاعي من نظام الاسترقاق، ثم تولدت الرأسمالية في أحضان النظام الإقطاعي، ومن صلب الرأسمالية برزت طبقة البروليتاريا، وستفرض هذه الطبقة دكتاتوريتها في مرحلة انتقالية لتنتهي فيما بعد إلى مجتمع بلا طبقات ( المجتمع الشيوعي)، مجتمع ينحل فيه الجدل إلى صراع بين انسان والطبيعة إذ يحاول أن يمتلك ناصيتها بالعلم إلى أقصى حد ممكن.
2- أطروحة هيغل:
يعتبر هيجل من الفلاسفة الذين يعبرون في فلسفتهم عن فكرة التقدم كما أفرزتها العقلانية الأنوارية، التي آمنت بقدرة العقل البشري على تحقيق الأفضل والتحكم في الظواهر الطبيعية والتاريخية.
هكذا فالتاريخ الحقيقي وفق الفلسفة الهيجيلية هو ذلك التاريخ الذي يهيمن على الوقائع ويصوغها ضمن منطقها الداخلي، من خلال تفاعل الشخصيات التاريخية نفسها مع المقصد الخفي الذي يبلوره المنطق الباطني للتاريخ ؛ حيث يقوم التاريخ وفقا لهذه الفلسفة بتفسير الوقائع واستخراج القوانين والتنبؤات لما سيحدث. فالعقل كما يراه هيجل هو جوهر التاريخ، ومن ثم فهذا العقل هو الذي يتحكم في أحداث العالم عن طريق التاريخ نفسه، وبالتالي فكل حدث من أحداث التاريخ إنما جرى وفقا لمقتضيات العقل الذي يموضع الأحداث العالمية لتخدم قصدا معينا أو هدفا محددا، وذلك من تحت مظلة التاريخ.
إن فلسفة التاريخ الهيجيلية تعتبر العقل نفسه هو من يسير التاريخ، بحيث يرتب أحداثه على نحو يجعلها سائرة نحو هدف أو غاية بعيدة المدى. على هذا النحو، فالتاريخ لدى هيجل هو عبارة عن منظومة تطور ونمو خاضعة لمنطق باطني كامن في الشخصيات التاريخية التي لم تكن وفق هذه الفلسفة إلا أدوات لتحقيق هدف التاريخ السائر بشكل حتمي نحو تحقيق غاية نهائية تتمثل في تجسيد حرية العقل المطلقة.
3- أطروحة كلود ليفي ستراوس:
لا ينكر كلود ليفي ستراوس فكرة التقدم في حد ذاتها بل إنه يثمن ما حققته الإنسانية من إنجازات باهرة في جميع المجالات، لكنه ينتقد فكرة أن التقدم يسير بشكل منظم ومتصل، ويقول على العكس من ذلك إن هذا التقدم يتم على شكل قفزات وطفرات فجائية ويتحرك في اتجاهات مختلفة.فيمكن لدرجة التقدم أن تكون أعلى في المجال العلمي عنها في المجال الأخلاقي أو السياسي ، كما أن التقدم الحاصل في الدول الغربية ليس هو نفسه الموجود في باقي الدول الإفريقية أو الآسيوية.